عبد الوهاب الأفندي
عند مواجهة جريمة عدوان على الأبرياء، مثل حادثة خطف طائرة أو سفينة ركّاب، سيكون مستغرباً لو طلب رجال الأمن من ركّاب السفينة مواجهة الخاطفين، بينما يأخذ مسؤولو الأمن استراحة قهوة، فالمسؤولية الأمنية ليست على الضحايا، بل هي مهمّة (واختصاص) الجهات الأمنية، الواجب عليها القيام بكلّ ما هو مطلوب إلى حين تحرير الرهائن وعودتهم إلى ذويهم في أمان. ولو فعلوا غير ذلك، لكانوا مضحكة العالم. وماذا يحدث، يا تُرى، لو أن مسؤولي الأمن لم يكتفوا بالتنزّه وشرب القهوة، بل كانوا على تواصلٍ مع الخاطفين سرّاً، ويتواطؤون معهم؟
نحن اليوم في وضع كهذا في ما يتعلّق بغزّة، وفلسطين عموماً. هناك بلد مخطوف منذ قرابة مائة عام، مع فارق أن الخاطفين نفّذوا تهديداتهم في حقّ المخطوفين، وقد أوشكوا أن يقضوا عليهم، فقُتل من قُتل، وأُلقي من أُلقي في البحر، وأُوذي من أُوذي. لم يكن “الكابتن” وقتها فلسطينياً، كما لم يكن بين رجال الأمن فلسطينيون، إلا أن “رجال الأمن” المكلّفين ألقوا بالمسؤولية على المخطوفين، بينما انصرفوا جميعاً إلى شؤون أخرى، منها تشجيع الخاطفين ودعمهم وخطب ودهم. كانوا يفعلون ذلك سرّاً حينما كانت هناك بقية حياء، واليوم جهراً وبفخر أحياناً، كما هو أيضاً حال موبقات أخرى، من البغاء وغيره. لهذا أكرّر أنه لم تكن هناك “نكبة فلسطينية”، بل هي نكبة عربية. الأنظمة العربية هي التي خسرت فلسطين، لأنه لم يكن مسموحاً وقتها للفلسطينيين بالقتال، ولم يمكّنوا منه. وعندما خسرت الأنظمة ما بقي من فلسطين، مثل الضفة والغربية وقطاع غزّة، لم تتحمّل أيَّ مسؤولية عن الأرض أو عن أهلها (ما عدا جزئياً في الأردن)، ولم تطالب باستعادة الأرض عندما وقّعت صفقات “سلام” مع الخاطف الإسرائيلي، ولم تشترط أيَّ شيء بشأن حقوق من كانوا رعاياها.
ولأن إسرائيل استمرّت في حربها ضدّ الفلسطينيين في الداخل والخارج، قبل تلك الاتفاقات وبعدها، فإن ما سمّيت اتفاقات “سلام” زادت الحرب على فلسطين اشتعالاً، وبغير قليل من التواطؤ من أولئك “المسالمين”، وغير قليل من الدعم للنكبة الاستيطانية المتجدّدة. حتى منظّمة التحرير الفلسطينية ألحقت بهذا الركب “السلامي”، بمهام “حربية” ما زالت تواصلها. وفي حين وقّعت تلك الأنظمة صفقاتها مع أشدّ الأنظمة الإسرائيلية تعصّباً وتوجهات إرهابية، فإن النكبات زادت حجماً ووحشيةً مع زيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية بحوالي نصف مليون منذ اتفاق أوسلو (1993)، وبأكثر من 720 ألفاً منذ اتفاقية كامب ديفيد (كان العدد نحو عشرة آلاف قبيلها). فنعم السلام ذاك! غزت إسرائيل كذلك جنوب لبنان في مارس/ آذار 1978 بعد أن كانت المفاوضات السرّية مع مصر قطعت شوطاً كبيراً. وخلال أقلّ من عامَين من توقيع الاتفاقات، ضمّت إسرائيل الجولان في 1981، ثمّ غزت لبنان مرّة أخرى عام 1982، وطردت منظّمة التحرير منه.
كلما عقدت اتفاقية “سلام” عربية، اشتدّت الوطأة على عرب فلسطين، وازداد عدد الهجمات وشراستها على غزّة وجنوبي لبنان
وهكذا، كلما عقدت اتفاقية “سلام” عربية، اشتدّت الوطأة على عرب فلسطين، وازداد عدد الهجمات وشراستها على غزّة وجنوبي لبنان. وقد علّق قيادي فلسطيني من “فتح” ساخراً بعدما سمع رفاقه في مؤتمر في مدريد بعيد الخروج من بيروت يشيدون بذلك “النصر المبين” بقوله: “أي انتصار آخر وسنجد أنفسنا في فيجي”. ونحن نقول أيُّ “سلام” آخر ستُصبح حدود إسرائيل عند نهر النيل، ثمّ في الفرات مع “السلام” الذي يليه.
ولعلّها ملاحظة تستحقّ التوقّف عندها أن المواقف العربية التي فاقت الاستسلام والتواطؤ إلى الحماسة الجهادية إلى جانب الكيان الصهيوني. فليست هي المسؤولة عن النكبات المتكرّرة فقط، بل كذلك عن انحدار إسرائيل إلى درك سحيق من البربرية والتطرّف، فمع إرهاصات “كامب ديفيد”، صعد إلى الحكم في إسرائيل مناحيم بيغن، وهو من كان يحلم بالاقتراب من بوابة مجلس الوزراء قبل ذلك. وبعد “أوسلو” جاء بنيامين نتنياهو وتبعه أرييل شارون. وبعد الهذيان “الإبراهيمي”، شهدنا نتنياهو ومعه إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وقد انقرض من الساحة السياسية الإسرائيلية اليوم اليسار، وبقية “المعتدلين”، على سوئهم وشرورهم. ولو جاءت مبادرة أخرى للركوع والسجود من العواصم إيّاها، فقد يظهر المسيح الدجّال.ماتت الإنسانية (بله النخوة) عند المتشبّثين بالسلطة، لأنهم ما زالوا يعيشون رهاب ربيع العرب
وإن كان ما سلف كلّه من تراجع مستمرّ للإرادة العربية، وتواطؤ مع جرائم تزداد فظاعة كلّ يوم، هو جناية في حقّ العرب، وتشجيع للانحطاط المستمرّ في الوضع السياسي لإسرائيل، فإن ما نراه بأمّ أعيننا حالياً في غزّة من فظائع تشيب لها الولدان (من بقي منهم في قيد الحياة)، هو حلقة جديدة في الانزلاق المشترك نحو هاوية سحيقة من انعدام الإنسانية واندثار الأخلاق وتبخّر القيم. فلو كان ضحايا تلك الفظائع من الحيوانات الأليفة (أو حتى غير الأليفة) لقامت القيامة. وبالطبع، فإن العالم كلّه شريك في هذه الجريمة المشهودة التي ليس لمخلوق عذر في الجهل بها، والغفلة عن بشاعتها. إلا أن مسؤولية العرب مضاعفة، أولاً لأنهم مهّدوا لها بتشجيع التطرّف الصهيوني، وبالتواطؤ غير المشروط معه. وثانياً بما أصابهم من صمم وبكم وشلل أخلاقي، منعهم من أدنى مبادرة، ناهيك عن وقفة أخلاقية شجاعة تساهم في ردع هذه الجريمة. وثالثاً بالتواطؤ الفعلي بفتح الأراضي والموانئ والأجواء العربية لإمداد إسرائيل بكل ما تحتاجه لإنفاذ جرائمها، في حين تتعرّض مجرّد الإيماءات الرمزية لدعم غزّة لقمع قبيح مُخزٍ، يخجل من مثله حتى بن غفير ورهطه. وأخيراً بقمع أيّ محاولة رمزية من متطوّعي العالم للتعبير العفوي عن التعاطف مع الضحايا، ما أن تطأ أقدامهم أرضاً تسمّى عربيةً، وهي صهيونية الوجه واليد واللسان. ولو كانت هناك في هذا اليباب ذرّة من العزّة والتصميم تجاه هذه المقتلة، لكانت كفيلةً بجعل المجرمين وداعميهم يتردّدون قليلاً.
لقد ماتت الإنسانية (بله النخوة) عند المتشبّثين بالسلطة، لأنهم ما زالوا يعيشون رهاب ربيع العرب، حيث خيّلت لهم أنفسهم الأمارة بالسوء أن حبس أنفاس شعوبهم رهين بدعم إسرائيل التي تشاركهم معاداة الشعوب، خصوصاً بعدما خذلت أميركا حلفاءها في أيام أوباما بتفضيلها الديمقراطية. فبعدما نجحوا في وأد روح الحرية والديمقراطية في كلّ بلد عربي هبّت رياحها إليه، يرون أن إخماد أنفاس فلسطينيي غزّة ثمن يجوز دفعه لحماية العروش المتهالكة (كما قالت مادلين أولبرايت عن موت نصف مليون طفل عراقي) وبحثاً عن وهم كسب شعوب مدجّنة لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر.
ولو تحقّق ذاك الوهم فإنه لن يعني دوام عروش خذلت نفسها وغيرها، فلا دوام إلا للواحد الأحد. بل سيعني ذلك بداية الانقراض؟ فهذا الحضور الباهت للأمّة في حالة مثل هذه هي أم القضايا، وموقع وقفة الرجال (والأصح أن يقال وقفة النساء، فالعزّة فيهنّ اليوم). فهذا التخاذل المتخاذل يعطي رسالةً بأن هذه أرض خلاء بلقع، أو كما قال قائل الصهاينة: “أراض (وثروات) بلا شعوب، لشعوب تستحقّ الأرض ومن عليها”، فإذا كان الابتزاز الصهيوني الضعيف قد حول المنطقة مرتعاً للسوام، فكيف يكون الحال أمام مطامع ترامب، وكلّ شيطان مريد، تخطر له خاطرة بأن هذه المنطقة جاهزة لما سمّيته في غير هذا المكان “الاستعمار الذاتي”؟
ما نراه بأمّ أعيننا حالياً في غزّة من فظائع حلقة جديدة في الانزلاق المشترك نحو انعدام الإنسانية واندثار الأخلاق
هناك اليوم أكثر من سيناريو يتفاعل في هذا الفراغ العربي. إمّا أن نتنياهو المنتشي بـ”انتصاراته” والمجاهر بـ”أنا ربكم الأعلى”، يستنّ بسنّة بريطانيا عندما دان لها الأمر في المنطقة، فيحوّلها كلّها سلطنة صهيون الكُبرى، فيستدعي “الزعامات” العربية (والأصحّ أنها ستتهافت) إلى بلاطه للبيعة، ويستبقي من يشاء من الولاة ويخلع من يشاء. وهذا هو الأقرب على المدى القريب. الفرق أن بريطانيا ملكت الأرض بالسلاح أولاً، ثم خضع لها الناس. أمّا نتنياهو، فإن الخضوع له والتهافت إليه تمّ قبل أن يسلّ سيفاً أو يرمي نبلاً. فهو إقبال محبّة وتوله، وخضوع عبادة وخشوع. والاحتمال الثاني أن الدول الصاعدة في المنطقة، خصوصاً الهند، قد تستعرض عضلاتها، وتطلب أن تكون لها الهيمنة في المنطقة.
ولكن الأقرب من هذا كلّه أن ترامب قد ينجح في تفكيك وتدمير أميركا بعنجهيته، فتنهار اقتصادياً، ومعها أوروبا، فنشهد بروز عالم جديد تستأسد فيه روسيا والصين، وقد يرافقه اندثار إسرائيل، ومعها حلفاؤها من الأعراب. وقد يندمج السيناريو الأول والثاني، فيعقب انهيار أميركا تقاسم المنطقة بين الصين والهند وروسيا. وربّما تمر عقود قبل أن نسمع مرّة ثانية بشيء اسمه العرب.
بالطبع، قد يتبلور سيناريو آخر هو مستبعد حالياً، أن يستيقظ العرب قادة وشعوباً، ويتصالح كلّ حاكم مع شعبه أولاً، ويتوجّه نحو بناء دولة قومية بشعب قوي، ويتصالح كذلك مع جيرانه وإخوانه، وينهض الجميع نهضةً واحدةً لفرض إرادة عربية، وتحقيق عزّة وكرامة جماعية. وهذا بالطبع مستبعد إن لم يكن مستحيلاً، وعليه من حسن التخطيط أن ننشئ مدارس لتعلّم اللغات العبرية والهندية والصينية والروسية، حتى نكون مستعدّين للمستقبل، فالاحتياط من الحكمة
