رأي

نقب الجدار بمعاول الخيال!

د. الخضر هارون
في مجموعة قصصية للقاص المصري يوسف إدريس بعنوان (النذاهة) ,قصة بعنوان ( مسحوق الهمس) تصور بدقة مشاعر سجين لا رجاء لديه في الخروج من محبسه. والسجن لأي سبب كان شديد القسوة علي الإنسان وقد أحسنت العرب حين وصفته بأنه (موت الإحياء وشماتة الأعداء!). قد يختلف مذاقه بين صنديد صاحب مباد نبيلة استرخص في سبيلها كل دعة وراحة و رغد فهو يجد ذلك كله في صموده في محبسه يبلغ أحياناً حد الزهو بالانتصار لكن ذلك لا يعني ألا تراوده الحاجة لإشباع الغرائز المركبة فيه كمخلوق من لحم ودم ينازع بين المثل العليا المبرأة من جزيئيات المادة وبين مكونات التراب فالناس جميعا تتراوح رحلات الحياة لديهم بين السماوات والأرض. والكاتب الأديب يوسف إدريس يكتب عن غيابات الجب في السجن عن تجربة عاشها بين حيطانه .فقد انتظم في شبابه الباكر وهو طالب في كلية الطب وبعدها طبيباً مبتدأ عضوا نشطا في واجهة الحزب الشيوعي المصري, “الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني”, (حدتو). ولما قلب الضباط الأحرار نظام الملك فاروق في يوليو 1952, انقسم الشيوعيون بين مؤيد لما وقع باعتباره ثورة وطنية معادية للاستعمار والإقطاع وبين معارضين له باعتبار الحدث من تدبير المخابرات الأمريكية علي غرار ما فعلت في أمريكا الجنوبية من انقلابات عسكرية رجعية. وأودع الشيوعيون في السجون وكان من بينهم يوسف إدريس. ولما وقعت مصر مع بريطانيا إتفاقية 1953 بشأن مستقبل السودان, رأي النظام الجديد أن طرح شيوعي السودان بشأن الوحدة مع مصر عند الاستفتاء بعد ثلاث سنوات ,يعد طرحاً مقبولاً بالنظر لمواقف الأحزاب السودانية الأخرى. وكان ملف السودان لدي الصاغ صلاح سالم الذي استدعي ثلاثة من سجناء حدتو من السجن للمساعدة في حث الشيوعيين السودانيين لدعم خيار وحدة السودان مع مصر كان من بينهم يوسف إدريس فجئ بهم لقصر عابدين وطرح عليهم الأمر فطلبوا مهلة أسبوع للتشاور مع زملائهم في السجن. لكن أطيح بصلاح سالم في ذلك العام عقيب تمرد توريت في جنوب السودان العام 1955. وكان ذلك سببا في عدم عودة يوسف إدريس إلي السجن وانتهاء نشاطه السياسي والاتجاه للأدب. وتروي قصة علاقته بثورة يوليو برواية أخري طلب فيها نظام عبد الناصر توسط الشيوعيين السودانيين لإتمام صفقة سلاح مع الإتحاد السوفيتي وأن يوسف إدريس جاء بالفعل في معية صلاح سالم للخرطوم وأن الصفقة قد تمت بنجاح.
والذي يعنينا هنا أن الرجل ذاق مرارة السجن فجاء وصفه لتلك المرارة عن تجربة حقيقية في (الليمان). يقول: ” من قال إن السجن هو فقط مصادرة حرية الإنسان؟ إن فقدان حرية الإنسان ليس سوي الإحساس السطحي الأول…. فالإنسان يظل يفقد أشياء كثيرة, كل ما يملكه أو باستطاعته امتلاكه, كل قدراته ومكتسباته…كل ما ينفرد به كشخص…”
ومع ذلك يعيش الأمل بين جوانحه, ” يصل الأمر ليفسر كل فتحة باب علي أن الشاويش قادم بأمر الافراج وكل حذاء ثقيل يدق أرض العنبر انه حذاء المأمور او المدير جاء يحمل قرارا بالإفراج…”
وفي ذات يوم جاء العسكري عبد الفتاح الطويل الرفيع الأسمر وقبل ان ينطق بكلمة كانت عصاه الخيزران تدق علي باب الزنزانة , دقات كمزاج صاحبها في النهار ,عصبية متعجلة ملحة :
– يالله…لِم عزالك ..ياالله..شيل نزامك “نظامك ” برشك وبطانيتك.. وتعال بسرعة! ”

كل سجين متلهف للحرية يظن أن معني ذلك الإفراج ولكن ويا لمرارة الحسرات كان الأمر انتقالا من زنزانة إلي أخري في أقصي عنابر السجن مجاورة لسجن النساء .وفي السجن قالة يسعد بتكرارها كل سجين بأن أحد السجناء كان قد أحدث في الجدار نقباً أوصله إليهن! فتعلق الأمل بتلك الجيرة وغرق السجين في الأحلام وطفق ليله ونهاره ينقر في الجدار السميك الذي ضاعفوا متانته كي يستعصي علي النقب. وتوالي النقر علي الجدار أسبوعا حتي أيقن صاحبنا بخياله الجامح أنه بدأ يتلقى نقرات عبره ردا علي نقراته . وخال الناقرة بيضاء شقراء فارعة الطول وربما تخيلها لطيفة بريئة لم ترتكب جرماً قادها إلي السجن بل سوء الطالع لا سوء الطوية هو الذي فعل ذلك وربما ظلم الظالمين وحسد الحاسدين. وعاش أياماً تقتات مشاعره المرهفة علي هذا الخدر اللذيذ فأطلق علي هذه المحبوبة المتوهمة عبر الجدار الصلد اسم (فردوس). ” أناديها بأعلى ما أستطيع من همس: سامعاني؟
– وتناديني دون أسمع لها صوتاً: أنت فين؟”
. قال ” وجاءت مرة فرصة حين انتهت النوبة وجاءت نوبة جديدة وأصبح الاومباشي عبد الفتاح الرفيع ذو العصا حارسا لليل في الدور الذي احتلُ احدي زنازينه ..جاءت الفرصة لأني اعرف ان عبد الفتاح العصبي المتعجل بالنهار غيره عبد الفتاح حارس الليل حيث لا توجد عيون الشاويشية والضباط حيث لا عصا وحيث تعود إليه طبيعته الصعيدية البسيطة ويصبح الطريق إلي قلبه كوب شاي مصنوع علي السبيرتو المهرب والطريق إلي لسانه سيجارة بلومنت . تحدثت إليه . قال “عبر باب زنزانتي المصنوع من عمدان حديدية متينة .وقفنا بعد العشاء ندردش ونتحدث وبمهارة قدت الحديث الي اللومنجي (السجين) الذي ثقب الحائط, ضاحكاً قائلا له انني لطالما فكرت أن أصنع مثله ..وشخشخ صدر عبد الفتاح وهو يضحك ويقول:
– بس المرة دي ح يطلع نقبك علي شونة ( أي من غير نتيجة).. أمال علي شونة.. وسألته كيف؟ فقال:
– دول خلاص عزلوا …. كل الحريم راحوا القناطر.. كلو عزل ..كلو…ودق الخاطر في رأسي اذن هذا هو السبب في رحيلها المفاجئ لا بد!
– وقلت لأتأكد:
– اظنهم نقلوهم بقي من حوالي عشرة أيام كده؟
– فعادت إليه العصبية:
– لا…لا.لا…عشرة أيام إيه…أنت نايم حضرتك.. دول من زمان… زمان خالص. من ثلاثة أشهر… بيجي من أربعة أشهر..
كدت اقهقه قهقهة من فقد العقل… أليس من الجائز ألا تكون هناك فردوس بالمرة؟ بل من يدري لعل الهمس المسحوق همس رجل كان يعتقد أنه يخاطب به أنثي؟؟ ”

وفي ظني أنا كاتب هذه السطور، أيها السادة وأيتها السيدات أنه كان كذلك!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى