رأي

نشوء الأحلاف ونمو المحاور: البحر الأحمر كساحة لإعادة تشكيل النفوذ

موطئ قلم

د. أسامة محمد عبدالرحيم

لم يعد البحر الأحمر مجرد شريط مائي يصل المتوسط بالمحيط الهندي عبر قناة السويس وباب المندب؛ بل أصبح مسرحًا لتنافس و نشوء محاور وأحلاف حديثة ترتكز على رسم حدود جديدة للأمن القومي للدول المنخرطة فيها، وبدأت تتشكل على ثلاثة أسس رئيسية تتداخل ما بين أمن الطاقة والتجارة العالمية (حيث أن تعطّل الملاحة ينعكس فورًا على الأسواق)، التموضع العسكري والقواعد على الساحلين الشرقي و الغربي للبحر الأحمر والجزر والموانئ، والهندسة السياسية للدول المشاطئة عبر ترتيبات نفوذ مباشرة أو حروب بالوكالة. وفي مناطق كهذه، يصبح “الاستقرار” نفسه “سلعة سياسية”؛ ومن يمتلك مفاتيح الاستقرار يمتلك مفاتيح المرور، والضغط، والمقايضة.

المحاور والأحلاف لا تولد فقط من “قربٍ أيديولوجي”، بل كثيرًا ما تتشكل وفق منطق المصلحة القابلة للتبادل و كذلك التهديدات المتوقعة والمشتركة. ومن أهم عوامل نشوء المحاور في بيئات السيولة الإقليمية:
فراغ القوة أو تراجع الضامن التقليدي: عندما تتباين مواقف القوى الكبرى أو تنشغل بملفات أكبر، تتقدم القوى الإقليمية لملء الفراغ بالأصالة او وكالةً عن هذه القوى الكبرى.
الممرات والاختناقات الجيوستراتيجية: باب المندب وقناة السويس ليسا جغرافيا فقط؛ إنهما “رافعة نفوذ” و “أدوات سيطرة”.
الاقتصاد–الأمن: الموانئ، اللوجستيات، الأمن البحري، الشركات العابرة… كلها أدوات نفوذ بلباس اقتصادي.
حروب الوكالة كأداة أرخص: بدل مواجهة مباشرة، يتم دعم فاعلين محليين لتعديل ميزان القوة من الداخل.
تكتيك “خلخلة الأوتاد” و “هد الركائز”: أي إضعاف أعمدة و ركائز دولة محورية حتى تُفرض عليها ترتيبات إقليمية “مناسبة”.

الحرب في السودان ليست صراعًا على السلطة أو تنازع عسكري مجرد؛ بل هي أيضًا نافذة لاختبار ترتيبات نفوذ في دولة تُعد “عمودًا فقريًا” في أمن البحر الأحمر موقعًا، وساحلًا، وموانئ، وعمقًا بريًا يربط القرن الإفريقي بوسط إفريقيا امتدادًا إلى غربها.
ومن زاوية صراع المحاور، فإن أخطر ما ينتج عن الحرب هو:
إضعاف الدولة المركزية وتفريغ مؤسساتها.
تفتيت المجال السيادي (تعدد مراكز القرار، تضارب الشرعيات، تمدد اقتصاد الحرب).
ضرب الجيش والصناعة الدفاعية بوصفهما “وتدين” للتماسك الوطني. هذه هي “خلخلة الأوتاد” و “هد الركائز” عمليًا، ليس المطلوب بالضرورة احتلالًا كلاسيكيًا، بل إنتاج دولة رخوة يسهل التأثير عليها وتوجيهها.

في اليمن، تتجلى الفكرة ذاتها: من يملك الشرق/الجنوب وممراته وبواباته البحرية يملك جزءًا من معادلة البحر الأحمر–خليج عدن. ومؤخرًا ظهرت توترات واضحة حول حضرموت والمهرة، حيث حذّر التحالف الذي تقوده السعودية من تحركات عسكرية قد تقوض مسار التهدئة، في سياق شدّ وجذب مع المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا. كما نقلت تقارير أن الرياض ضغطت باتجاه التهدئة والانسحاب “السلمي” وتجنب الانفراد العسكري في تلك المناطق.
والدلالة هنا أن باب المندب ليس “نقطة جغرافية” معزولة عن حضرموت والمهرة وسقطرى وما حولها، بل شبكة تأثير متصلة. وكل توتر في هذه العقد يُقرأ ضمن سباق المحاور على “المفاتيح”.

كذلك، فإن التحول الأبرز في الأيام الأخيرة هو إعلان إسرائيل الاعتراف بـ“أرض الصومال” كدولة مستقلة، بوصفها أول دولة تقوم بذلك، وما ترتب على ذلك من موجة إدانات ورفض إقليمي ودولي، مع تأكيد واسع على وحدة أراضي الصومال. هذا الاعتراف (بغض النظر عن دوافعه النهائية) يُحدث ثلاثة آثار سياسية مباشرة:
كسر “سقف التحريم”: فتح الباب أمام أطراف أخرى لاختبار الاعتراف أو الاستثمار السياسي.
زيادة حساسية الممر: لأن موقع “أرض الصومال” قريب من باب المندب وخليج عدن، ما يجعله جزءًا من حسابات الأمن البحري.
إعادة تشكيل الاصطفافات: إذ يُتوقع أن يدفع ذلك دولًا مشاطئة ومؤثرة إلى تشديد مواقفها أو بناء ترتيبات مضادة.

إن جملة الأحداث السياسية و العسكرية المتسارعة و المتوالية مؤخرًا، تُطرح فرضية نشوء “تحالف إماراتي–إسرائيلي” يشتغل عبر الوكلاء لتطويق الإقليم وجعل السودان “ساحة اختبار”. هذه الفرضية السياسية تدعمها:
وقائع موثقة (تحركات دبلوماسية معلنة، علاقات رسمية، قرارات اعتراف).
اتهامات شبه مؤكدة (مسارات سلاح/مرتزقة/تمويل)، مسنودة بالأدلة والتحقيقات. ومع ذلك، توجد بالفعل تقارير استقصائية ناقشت خطوط نقل ووجود مرتزقة (منهم كولومبيون) في مسرح الحرب السوداني وربطت بعض القصص بجهات إقليمية، مع وجود نفي وإنكار رسمي إماراتي. يجدر هنا، الإشارة إلى أن “اقتصاد الحرب” وشبكات الإمداد العابرة للحدود أصبحت جزءًا من أدوات المحاور في المنطقة، وأن البحر الأحمر يوفر “مسرحًا مثاليًا” لهذه الأنماط.

من زاوية تحليلية، اشتهرت إسرائيل تاريخيًا ب”تراكم المكاسب البطيء”؛ نفوذ متدرج، علاقات هامشية تتحول إلى نقاط ارتكاز، ثم إلى ترتيبات.
لكن اعترافًا مثيرًا للجدل مثل ملف “أرض الصومال” قد يكون قفزة سريعة قد تُنتج ارتدادات تضر باستراتيجيات اسرائيل التي عرف عنها ثبات المقاصد و الصبر على تحقيق الأهداف، من هذه الارتدادات المتوقعة:
توحيد خصوم متفرقين ضد خطوة واحدة.
دفع مؤسسات إقليمية ودولية للتشدد.
تعقيد حسابات الشركاء أنفسهم على ساحلي البحر الأحمر . وقد رأينا بالفعل حجم الرفض العلني والإدانات بعد القرار.
وقد يربح التكتيك لحظة لكنه وحتمًا يُربك الاستراتيجية طويلة النفس إذا بالغ في استفزاز البيئة المحيطة دفعة واحدة.

مع هذه التطورات في كلٍ من (السودان/اليمن/أرض الصومال)، يمكن توقع عدد من الاتجاهات:
اتجاه تعزيز محور حماية الممرات، حيث هناك دول ترى أمن البحر الأحمر–خليج عدن ملفًا سياديًا وجوديًا ستدفع لتنسيق أكبر (أمني/استخباري/بحري).
اتجاه تمدد “الاقتصاد–الأمن” من حيث، استثمارات الموانئ، المناطق الحرة، الخدمات اللوجستية و خلافها من أنشطة قد تصبح غطاءً لتثبيت نفوذ طويل.
اتجاه عودة منطق التوازنات الإقليمية، أي أن كل خطوة استفزازية قد تستدعي خطوة مضادة: تدريب بحري، اتفاقيات دفاع، أو تكتلات دبلوماسية.
محاولة إعادة تعريف “الشرعية” داخل الدول الهشة بما يسمح بخلق “كيانات وظيفية” تتعامل معها الأطراف الخارجية كأمر واقع، ولو مؤقتًا.

إن ما تشهده (منطقة البحر الأحمر – خليج عدن – القرن الإفريقي)، يمثل لحظة إعادة اصطفاف كبرى، لا تقوم على الشعارات الأيديولوجية، بل على من يملك مفاتيح الجغرافيا ومن يضمن الممرات ومن يضبط الفوضى و من يفرض إرادته. وفي هذا السياق، يمكن رصد أربعة مسارات متداخلة تُنذر بتشكّل محاور واضحة المعالم:
أولًا: محور الإمارات – إسرائيل – الوكيل المحلي
(محور السيطرة غير المباشرة وتفكيك الدول):

يتكون هذا المحور من (الإمارات العربية المتحدة
_إسرائيل)، وحلفاؤه هم حلفاء الإمارات المحليون في اليمن (المجلس الانتقالي الجنوبي وأذرعه)، و الفاعلون المسلحون أو كيانات وظيفية في السودان والصومال من مليشيات و جماعات مسلحة.
طبيعة هذا المحور، هو محور عملي–تنفيذي لا يحتاج إلى إعلان رسمي.ويعتمد على إدارة الموانئ والقواعد والجزر، واستخدام الوكلاء المحليين بدل الجيوش النظامية، وخلق وقائع جديدة على الأرض ثم السعي لتكريسها سياسيًا.
من أهداف هذا المحور الاستراتيجية، تطويق البحر الأحمر من الجنوب (باب المندب – خليج عدن)، تحييد أو إضعاف الدول المركزية (اليمن، السودان، الصومال)، ضمان أمن الملاحة الإسرائيلية في إيلات، وتحويل الجغرافيا إلى أحزمة نفوذ مرنة بدل دول قوية.
من أخطر سمات هذا المحور، أنه لا يسعى إلى “الاستقرار”، بل إلى إدارة الفوضى بما يخدم السيطرة.

ثانيًا: محور السعودية – مصر – السودان – إرتريا
(محور حماية الدولة والممرات):
يتكون هذا المحور من (المملكة العربية السعودية، جمهورية مصر العربية، السودان _الدولة/الجيش وليس الفاعلين غير النظاميين، وإرتريا). و حلفاؤه هم الحليف السعودي في اليمن (الدولة اليمنية/الشرعية أو ما تبقى منها).
طبيعة هذا المحور، هو محور دول سيادية تقليدية. يقوم على منطق حماية الدول من التفكك، ومنع ظهور كيانات موازية تهدد الممرات.
الحفاظ على وحدة الأراضي.
من اهداف هذا المحور الاستراتيجية حماية قناة السويس وباب المندب، منع تحويل اليمن والسودان إلى منصات نفوذ معادٍ، منع تدويل البحر الأحمر خارج الإطار الإقليمي، وكبح أي ترتيبات تمس الأمن القومي المصري أو السعودي.
أبرز نقاط قوته أنه يمتلك الشرعية الدولية والجغرافيا والكتلة السكانية، و أبرز نقاط ضعفه بطء الحركة السياسية مع التردد في الحسم، والميل إلى رد الفعل أكثر من المبادرة.

ثالثًا: محور تركيا – مصر – السودان – قطر
(محور الموازنة الاستراتيجية الناعمة):
يتكون هذا المحور من (تركيا، مصر _بصورة متحركة لا ثابتة، السودان، وقطر).
طبيعة المحور أنه ليس تحالفًا صلبًا حتى الآن، بل تقاطع مصالح قابل للتحول إلى محور. يقوم على
النفوذ السياسي، بناء القدرات، والحضور الإنساني والاقتصادي.
أهداف هذا المحور الاستراتيجية منع الاحتكار الإماراتي–الإسرائيلي للمشهد، إعادة التوازن في القرن الإفريقي، دعم الدولة الوطنية مقابل الكيانات الوظيفية، وتأمين البحر الأحمر دون عسكرة مفرطة.
تكمن أهمية هذا المحور، في أنه يشكل وزنًا موازنًا دون أن يصطدم مباشرة بمحور السعودية–مصر.
كما يمكن أن يعمل كـ“جسر” بين محاور متعارضة.

رابعًا: موقف الولايات المتحدة:
الحقيقة الأهم هي أن أمريكا ليست محورًا، بل “مدير مسرح”. ودورها الاساسي على هذا المسرح، أنها لا ترغب في سيطرة إسرائيل منفردة، ولا فوضى شاملة تفلت من السيطرة. كما تسعى إلى إدارة الصراع لا حسمه، إبقاء الجميع تحت سقف “اللا غالب ولا مغلوب”، وضمان حرية الملاحة دون الانخراط المباشر.
كذلك فإن امريكا تستخدم ادواتًا معروفة منها الضغط السياسي، العقوبات، وإدارة المسارات الدبلوماسية، وترك هامش حركة للحلفاء الإقليميين مع ضبط السقف.
يتلخص كذلك موقف امريكا من المحاور، في أنها تغض الطرف عن تحركات الإمارات ما دامت لا تُشعل حربًا كبرى، تحتاج السعودية ومصر لضمان الاستقرار، تراقب تركيا دون صدام، وتدعم إسرائيل لكنها لا ترغب في انفلاتها الاستراتيجي.

نخلص من كل ذلك و بتحليلٍ مركزٍ، في أننا أمام ثلاثة محاور إقليمية محتملة، وفاعل دولي يدير التوازن:
محور تفكيك وإدارة الفوضى
(الإمارات – إسرائيل – الوكلاء)
محور حماية الدولة والممرات
(السعودية – مصر – السودان – إرتريا)
محور الموازنة وكبح الاحتكار
(تركيا – مصر – السودان – قطر)
والولايات المتحدة:
ليست في أحدها بالكامل، لكنها تملك حق الفيتو على انفلات أيٍّ منها.

إذا كان البحر الأحمر هو محور الصراع، فإن السودان ليس تفصيلاً على هامشه، بل مركز ثقل جغرافيا وموانئ وعمقًا. ومن ثم فإن معركة السودان ليست فقط معركة قتال و عمليات عسكرية، بل معركة شكل الدولة؛ دولة متماسكة قادرة على حماية مفاتيحها، أم كيانٌ هشّ تتنازعه المحاور وتتعامل معه القوى بقاعدة “تقاسم النفوذ”.
وفي لحظة نمو الأحلاف والمحاور، يصبح معيار النجاة واحدًا، وهو أن تستعيد الدولة وتدها الصلب (وحدتها، مؤسساتها، جيشها، اقتصادها السيادي)، لأن من دون ذلك يتحول البحر الأحمر من فرصة تاريخية إلى فخ استراتيجي.
إن ما نشهده ليس صراعًا بين دول، بل صراعًا بين نموذجين؛ نموذج الدولة القوية التي تحمي الممر البحري المهم و تحافظ على مصالحها و أمنها القومي، ونموذج الكيان الوظيفي الذي يُدار لخدمة محور. والبحر الأحمر، في هذه اللحظة التاريخية، لا يحتمل إلا واحدًا منهما. إن مستقبل البحر الأحمر قد لا تُرسم فيه خرائط النفوذ بالأحبار و الأقلام والاتفاقيات وحدها، بل بقدرة هذه الدول على البقاء دولًا، وامتلاك الإرادة لفرض رؤاها و حماية سيادتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى