ندوة أكسفورد بين التباين و التهاتر

هويدا صلاح الدين

عندما عقدنا العزم في يوم السبت السادس والعشرين من يوليو لحضور ندوة (المصالح والرؤى المتباينة وممسكات الحفاظ على السلام و الوحدة) كنت أظن أن ما أبتلي به السودان من حرب طاحنة بغيضة ، وما نشهده كل يوم من دمار وسحق وسحل وقتل وقهر للرجال ، كاف أن يخرجنا من شرنقة التفكير الضيق ، وأن يوحدنا في المستقبل الذي نأمل أن يكون مشرقاً واعداً متجدداً .

كان عنوان الندوة التي اقترحها المنظمون في مدينة أكسفورد كافٍ أن يدلل على الاختلاف البائن فكريا وسياسيا وقد انعكس ذلك التباين على تركيبة المتحدثين في المنصة ، دكتور صدقي كبلو عضو الحزب الشيوعي ، وبروفسور حسن مكي المفكر الإسلامي ، وعثمان منصور عضو صمود ، تركيبة تعبر تماما عن سودان اليوم الذي يتناطح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار ، لكن لم تكن المشكلة البتة في المتحدثين الذين عبر كل واحد منهم بقناعاته وفكره الثاقب دون تشاحن أو تهاتر ، بل وصل الحد أن يترافع ويدافع من هو في أقصى اليسار إلى من هو في أقصى اليمين مبرءاً له من جرائر الإنقاذ . فكان حديث الثلاثة شيقاً منساباً ممتعاً جاذباً ، فأين كانت المشكلة إذاً ؟

المشكلة الحقيقية بدأت عندما فتح باب النقاش للحضور ، فقد غاب عن البعض وأكرر البعض أدنى قيم الحوار والمنطق والحجة ، فآثروا أعلاء الصوت والصخب و الهرج والمرج والتناطح بالكلمات والمقاطعة للحديث بين الحين والآخر ، والمؤسف أن من يقود هذا الهرج أحيانا من كنا نظن أنهن من الجنس اللطيف ، لكن يبدو ان اللطف لم يعرف اليهن سبيلاً.

وحتى لا يأول ما أعني بطريقة خاطئة، فلا بد من التأكيد أنه لم يتبادر إلى ذهني منذ الوهلة الاولى أن ترفع القبعات او تلقى كلمات الحب او يهتف الناس بالتأييد للمتحدثين ، و لكن على الأقل ومن وحي الأخلاق السودانية الأصيلة كنت أتوقع إحترام الضيوف الذين تكبدوا مشاق السفر بدلاً من التنمر عليهم بالهتافات والمهاترات اللفظية وكأننا في مظاهرة وليس محاضرة .

لم يتصور أحداً منا أن يكون الحضور الذي يمثل مدينة أكسفورد العريقة متناغما او متفقاً مع بعضهم البعض أو مع بعض او كل المتحدثين ، ببساطة شديدة لأن سنة الحياة وقانون الكون يقضي بأن من الطبيعي أن يختلف الناس لا أن يتفقوا ، لكن في ذات الوقت لم يكن متوقعاً كذلك أن يسلك البعض في تلك الظروف القاهرة بسلوك لا يعبر عن إنسان السودان الوقور المحترم ، فأقل ما يتبادر إلى الذهن أن تنطلق القناعات والرؤى من مبدأ رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب ، وهو ما يجعلنا نجادل بالتي هي أحسن ونعلي قوة المنطق بدلاً من الجدال العدائي المشوب بالعشوائية وعدم النظام . رحم الله الامام الشافعي الذي كان يقول (ما ناظرت احداً إلا وتمنيت أن يجري الله الحق على لسانه ) فأين نحن من ذلك .

لقد أعمى خطاب الكراهية والغل بعض ضعاف النفوس فأصبحوا لا يرون غير العنف اللفظي طريقاً للتعبير يناطح به غيره لينتصر لنفسه ، والأولى في تلك الحالات من وجهة نظري أن يلتزم الطرف العاقل عدم الرد ومن باب (لا تجادل الجاهل كي لا يغلبك بجهله ) .

لا يهم أن يختلف بعضنا مع البعض الآخر، فيمكن الجلوس الساعات الطويلة للوصول إلى المشترك ، وفي حالة عدم الوصول ينصرف الكل وهو راضٍ عن نفسه وعن غيره . في هذا المعنى أكد الدكتور صدقي كبلو في رده على بعض المنتقدين ، أنه كمتحدث عرض وجهة نظره وقناعاته بما يدور في الحرب الدائرة في السودان فإن لم يقتنع الحضور بذلك فهذا حقهم وليبحثوا عن وجهة نظر أخرى .

يقول المناضل الجسور نلسون مانديلا (لا أحد يولد وهو يكره شخصًا آخر بسبب لون بشرته أو خلفيته أو دينه). وعليه فإن الناس يتعلمون الكراهية من ما يتعرضون له من ابتلاءات ومصائب ونزاعات ، ويبدو أن النكبات المتتالية في السودان منذ الاستقلال، أفقدت البعض بوصلته في التحكم والقدرة على الحوار ، وأصبح في زحمة الاستقطابات المتناثرة و المتناقضة من لا يريدون سلماً ولا يبغون اصلاحاً .

القوة دائماً تستمد من حسن الإصغاء لمن يخالفك، والعقل الواعي هو القادر على احترام الفكرة حتى ولو لم يؤمن بها ،إما إنعدام النقاش المنطقي فهو كارثة تكفي عصف الفكرة ، إذ ان تشنج الرأي في نهاية المطاف يقود إلى الإستعلاء والكبر .

ختاماً رغماً على ما يقال عن أن الشر يعم ، إلا أنه لا بد من التأكيد أن بعض الحضور كذلك كان قمة في الرقي والأدب الجم والنقاش الهاديء ، ولا يسعني إلا أن أشيد بالأستاذ بشير محمد إبراهيم رئيس الجلسة والذي حاول أن يضبط الندوة ويديرها بكل الحياد الممكن ، وكذلك الشكر والتقدير للدكتور أنس الوسيلة وزوجته الرائعة الدكتورة رشا اللذان إستقبلونا أفضل إستقبال بكرم فياض ونخوة سودانية.
وختاماً أدعو أن يكون شعارنا دائما وفي كل المراحل التاريخية (قوّم النفس بالأخلاق تستقم ).

استاذة بجامعة النيلين

Exit mobile version