موئل الإيمان .. مأوى القلوب

بابكر إسماعيل
مهبط الوحي وموئل الإيمان ..
تحتضن رمالها أعظُمَ أعظَمِ من وطأ الثرى وأندى العالمين بطون راح ..
كلما تكاثرت عليّ الهموم قصدتها فتمد ذراعيها وتضمني في حنوّ العائدين لأمهم ..
فتكتحل عيني بمرأى تلك المجالي ..
وتتغبّر أقدامي في سوحها ..
وأمدّ يدي لأمسح منها من غير تمسح
ولا ابتداع ..
فترتاح نفسي وترضى ..
ويمتلأ قلبي بالإيمان واليقين فأعود أقدر على مكابدة العيش متدافعاً مع المتدافعين عليها .. حامداً شاكراً ممنوناً ..
تغيرت تلك المدينة الساحلية الكوزموبوليتان والتي حوت وأوعت من كلّ فج عميق ..
لآليء بحر .. وأصدافاً وزبداً كثيراً ..
لم أتجوّل في حواريها كثيراً..
ولكم وددت لأعيد ذكريات السنين ..
سألني سائق سيارة الأجرة من المطار وهو شاب وسيم قسيم قد تطبّع لسانه بتلك اللكنة الجداوية المحببة ويبدو أن أهله قدموا من بعيد واستوطنوا فيها ..
هل هذه أول مرة تأتي إلى جدة ..؟
قلت له متى ولدت ..؟
قال عام ٢٠٠٢ .. قلت له أول مرة زرتها كانت قبل ميلادك بست سنين ..
وربما قبل أن يتعرف أبوك على أمك ..
فضحك والحياء يغمره ..
أكثر التغيير رأيته في الناس ..
خاصة في الشباب من الجنسين فقد اختفى فيها الزي الرجالي التقليدي أو صار نادراً ..
وتزايأوا بزي الإفرنج .. وقد ردّ بروفيسور عبد الله الطيب البنطلون إلى الترك وهي أمة غير ذات بعيد منا بل هم في قلب الأمة النابض ..
همّاً وهمّة ..
أما الشابات الصغيرات فما زلن يرتدين العباءات السوداء المفتوحة ..ولكن من غير نقاب للوجه وقد تراجع حجاب الرأس للخلف قليلاً لتبرز مقدمة الشعر الأسود البهي للناظرين ..
وربما ترك قليل منهن الشعر المتعرج متدلياً على جانبي الوجه بلا حجاب ..
والوجوه قد طليت بألوان ومرطِبات وكريمات كثر فصارت كصور الفوتوشوب .. تزيد فيها الإضاءة والدفء وحدة الملامح حسب الذوق والمزاج والفئة العمرية ..
رأيت عجوزاً مسنة بالمطار ومعها ابن أو حفيد .. وهي تأكل من تحت نقابها .. وقد أبعدته عن وجهها قليلاً باليد الأخرى .. فتذكرت قاسم أمين وصفية زغلول ويوم رمي الخمار والملايا .. والتاريخ يعيد نفسه مرات ومرات من غير عظات ولا تفكّر ..
وأما غير المسلمات في الديار الطاهرة فصرن لا يضعن تلك الطرحة الخفيفة على الرأس .. ويرتدين ما شئن من غير حذر ولا وجل ..
الآن لا تسمع التلاوة الجهرية في المساجد .. يُنقل الآذان فقط عبر مكبرات الصوت وذكرني هذا عندما اشتكت الممثلات المصريات القاطنات بقاردين سيتي بالقاهرة من صوت المساجد والآذان وكان حينها الشيخ الشعراوي وزيراً للأوقاف وأظنه منع استعمال مكبرات الصوت في ذلك الحيّ وما أشبه الليلة بالبارحة ..
وكذلك لاحظت قلة عدد الشباب والصبية في المساجد كما انعدمت أو تكاد حلقات التحفيظ التي كانت تغص بها كثير من المساجد ..
وتجد الآن معظم رواد المساجد كهولاً وشيوخاً وقلة قد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة من الشباب في بعض المساجد
جلست على متن الإيربص 320 وقد غصّت بالركّاب فتذاكرها أقل سعراً من تذاكر ناقلهم الوطني لمن لا يحمل متاعاً كثيراً ..
عندما بدأت مكائنها في الإحماء ..
انطلق صوت دافيء يتلو دعاء السفر:
سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين .. وإنا إلى ربنا لمنقلبون ..
ثم بدأت الماكينات تزمجر ..
فسمعت صوت ربّانها أحمد من بين هدير المكائن .. crew remain seated for departure .. توكّلنا على الله ..
ودعس على محابس وقودها ..
فانطلقت لا تلوي على شيء في تارميك مدرجها وهي تنفث نفثاً حامياً وشرراً ..
ثمّ حلقنا عالياً فوق طيات السحاب ..
وأنا أدمدم .. أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟
أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون؟
أم لهم خزائن ربّك أم هم المسيطرون ..؟
أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين ..؟
صدق الله العظيم ..
وبينما أنا في دمدمتي وقعت عيني على تغريدة كبير السُودان:
شكراً ترمب .. شكراً بن سلمان ..
والحمد لله ربّ العالمين المحمود على كل حال في الأولى والآخرة .. وحنيت لأيام الزارعنا غير الله اليقلعنا .. وأمريكا قد دنا عذابها وهي تعاني في صمت تحت جزمته .. ولله في خلقه شئون ..
وتوكّل على الله حين تقوم بطائرتك عالياً بين الغيوم ..
وقد علمت أنّ الإيمان باقٍ في النفوس .. والطقوس ..
وإن كره النجوس ..
النحوس ..



