من نسل بوليفار إلى البرلمان الإسفيري للشعوب…كيف سبقنا رجل مسيحي إلى نصرة الدم المسلم؟

بقلم: عبدالعزيز يعقوب
حين صعد رئيس كولومبيا غوستافو بيترو إلى منبر الأمم المتحدة، لم يكن صوته مجرد خطاب سياسي عابر. لقد بدا وكأنّ التاريخ نفسه خرج من بين ضلوع أمريكا اللاتينية ليتلو على العالم مرثية الدم الفلسطيني. دعا الرجل إلى تكوين جيش من دول آسيوية لتحرير فلسطين، وكأنه يعلن أن الكرامة لا تحدها جغرافيا ولا يقيدها دين، بل يسكنها الضمير الحرّ حيثما وُجد.
إنها صرخة تأتي من وراء الأطلسي، من بلد لا يملك ثروات نفطية ولا يحجز لنفسه مقعداً بين أباطرة المال، لكنها صرخة محمولة على إرث بوليفار، رمز التحرر اللاتيني. وفي المقابل، يُحرجنا المشهد نحن أبناء هذه الجغرافيا التي تتنفس حول فلسطين. كيف لبلد يبعد آلاف الأميال أن يقف وقفة عزّ في حين خبا صوت الجوار الأقرب؟ كيف لرجل مسيحي أن يجاهر بنصرة الدم المسلم، بينما أطبق الصمت على مليار شفة مسلمة من طنجة إلى جاكرتا؟
لقد شاهدنا كيف أن الاعتداء على الدوحة أشعل الدنيا غضباً. تحركت العواصم، وتدفقت الإدانات، وتسابقت الميكروفونات في التعبير عن الغضب، وكأنّ العالم لا يحتمل مسّ المال والنفط. ونحن إذ ندين تلك الجريمة ونراها فعلاً مرفوضاً يستحق الشجب والإدانة بل والرد بالمثل، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل التناقض الصارخ، لماذا كان الصوت أعلى وأسرع حين خُدش جدار العاصمة القطرية، بينما ينخفض إلى همس باهت حين يُزهق دم الإنسان الفلسطيني كل يوم؟ أيّ معادلة هذه التي ترفع مصالح المال على جراح الجسد؟ وأي زمن هذا الذي يصبح فيه برميل نفط أثمن من روح إنسان؟
المفارقة تزداد وضوحاً حين نتذكر أن نصرة المسيحي لدماء المسلمين ليست أمراً غريباً في سجل التاريخ. فقد كانت الهجرة الأولى للمسلمين إلى الحبشة، أرض النجاشي المسيحي، حين ضاقت بالمسلمين مكة واهلها من الأعراب، فوجدوا في حضن ملك مسيحي عادل ملاذاً آمناً. ذلك الموقف ظل صفحة بيضاء في كتاب العلاقة بين أهل الكتاب وأهل الإسلام، إذ أثبت أن العدالة لا تقتصر على عقيدة ولا تختزل في هوية، بل تتجذر في القلب البشري الحرّ. واليوم، يعيد غوستافو بيترو كتابة الصفحة نفسها بمداد جديد، حين هتف باسم فلسطين ورفع كرامتها في وجه العاصفة.
المشهد إذن محرج ومخزٍ ومثير للأسى. محرج لأنّ كرامة الأمة لم يحرسها القريب بل حماها صوت بعيد. مخزٍ لأنّ دماء غزة باتت أرخص من مصالح الأنظمة في حسابات السياسة والنفط. ومثير للأسى لأنّ المليار مسلم على وجه الأرض، بعلمائهم وأمرائهم وملوكهم وجيوشهم، لم يملكوا شجاعة الجهر بما جهر به رجل مسيحي من أقاصي كولومبيا، لأنهم منهزمون نفسياً.
لكن، رغم الألم، في هذا التناقض بذرة فرح صغيرة. بذرة تقول لنا إن الإنسانية لم تمت بعد، وإنّ في كل القارات ضمائر ما زالت تهتز للدم المراق. إنّ صرخة بيترو لا تعني فقط نصرة فلسطين، بل تعني أن العالم ما زال قادراً على إنتاج بشر يعتبرون الإنسان أثمن من الذهب الأسود، وأغلى من حسابات البنوك، وأسمى من حدود السياسة.
ومن هنا لا تنتهي الدعوة بل تبدأ، فصمت الحكام المروضين وخذلانهم للقضايا العادلة يجب أن يكون الشرارة الأولى لبناء صوت الشعوب. صوت لايقهر ولا يروض، صوت يخرج من منصة إسفيرية افتراضية، ينشئها الأحرار من كل بقاع الأرض، مسلمين ومسيحيين وغيرهم، لتكون منبراً دائماً يعبر عن الرفض والكرامة، ويواجه النسيان بذاكرة حيّة لا تموت. إنها ليست خاتمة بل بداية لطريق طويل، يسير فيه الضمير الإنساني بعيداً عن عجز الأنظمة وتخاذلها، ليعيد لفلسطين نصيرها، وللمضطهدين والمستضعفين في ي الأرض العدالة والإنصاف، وللإنسانية وجهها المشرق.
هكذا، من نسل بوليفار الذي علّم القارة معنى التحرر، إلى غوستافو بيترو الذي أعاد إلينا معنى الإنسانية، نكتشف أن نصرة الدم ليست حكراً على دين أو قومية. وما أحوجنا نحن، أبناء هذه الأرض، إلى أن نصحو من غفوتنا، ونسترد صوتنا، قبل أن تكتب الأجيال القادمة أن فلسطين لم تجد نصيراً إلا من بعيد



