بقلم: خالد التيجاني النور
لئن كتب الأستاذ محجوب محمد صالح مؤلفه المرجعي عن تاريخ الصحافة السودانية لنصف قرن 1903-1953، فإن مسيرته الماسية الملهمة في دروب صاحبة الجلالة لنحو ثلاثة أرباع قرن التالية أسهمت في رسم معالم بارزة في تاريخ البلاد لا يقتصر أثرها على المجال الصحفي بل يمتد أثرها باقياً في المجال العام، وقد ظل الأستاذ محجوب يشكل حضوراً فاعلاً في الذاكرة الوطنية، وقد عُرف بمبادراته وإسهاماته العديدة في ساحات الإعلام والسياسة والمجتمع في غالب المنعطفات التي ظلت تشكل تحدياً لنهوض السودان منذ بواكير سنوات السعي للاستقلال وحتى يوم الناس هذا.
لم يحجب حضور الأستاذ محجوب كشخصية بارزة في الفضاء العام لعقود حرصه الأكيد على البقاء وفياً ومخلصاً وحفياً برسالته الإعلامية التنويرية واحداً من رواد الصحافة ورموز الاستنارة التي كانت مدخلاً لعطائه الممتد في مجالات العمل الوطني المختلفة، وهنا يتجلى سر “مسيرته الصحافية الماسية” التي ظل متمسكاً فيها على طول رحلتها مهتماً وباذلاً وسعه للإسهام على إبقاء جذوة الصحافة متقدة على الرغم من كل تقلبات السياسة وسنوات التضييق المتطاولة.
وقد تسنى لي من تجربة ذاتية، كما حظي بذلك العديد من زميلات وزملاء المهنة، الوقوف على جوانب مضيئة في شخصية الأستاذ محجوب شكّلت مصدر إلهام لي ولأجيال متعاقبة من الصحفيات والصحفيين، فتأثير مدرسة الأستاذ ومآثره على الصحافة والصحافيين لم يقتصر على جريدة الأيام العريقة، ومن عبروا بتميز إلى دروب المهنة عبر بوابتها، بل امتد فيضه ليعم الصحف الأخرى، ومن توسم فيهم نباهة من ناشئة الصحافيين لا سيما تشجيعه المرأة للولوج إلى قلب العمل الصحفي لا البقاء على هامش مهنة المتاعب.
كان الأستاذ محجوب حفياً بتجربتنا في جريدة “الصحافي الدولي” التي صدرت أواخر تسعينيات القرن الماضي وهي تحمل إرهاصات وآمال ترمي بسهم في جهود تجديد مسيرة الصحافة السودانية، فقد كان كريماً في تشجيعه لأول صدورها، منوهاً بتميز نهجها، متابعاً باهتمام لمسيرتها باذلاً النصح والعناية بتجربتها مشاركاً خلاصة تجاربه الثرة مع القائمين عليها داعماً تطويرها.
ما كان ذلك مصدر تعجب منا، فالشئ من معدنه لا يستغرب، وتلك سمة ذوي النفوس الكبيرة فمثلهم خيرهم ممتد للآخر بلا من ولا أذى، ولا غرو فإن ذلك ينم عن طبع أصيل في تكوين شخصية الأستاذ محجوب وسيرته، فهو على الرغم من صيته العالي ومقامه الكبير كأحد أهرامات الصحافة السودانية وبناة مجدها، إلا أنه يتميز بشخصية شديدة الرقي، والتحضر، والسعة، ديدنه التواضع، والتهذيب لا يشعرك في أي لحظة من التعامل معه أنك أمام شخصية مهمة بارزة صاحب إنجازات تاريخية، وتكاد تحس بحرصه على التعامل بروح الزمالة العامة بالود مع الجميع بما في ذلك الأجيال الأصغر سناً.
من مآثر الأستاذ العديدة في خدمة الصحافة السودانية وتنوير الرأي العام تلك المثابرة التي طبعت مسيرته الطويلة وتصميمه على التمسك بالمهنة على الرغم من كل التحديات والمصاعب التي ظلت تحيط بالصحافة في العهود الشمولية المتطاولة، ولم يكن ذلك يقف حائلاً دون أن يبذل غاية الجهد في توظيف أية كوة مهما صغرت لتوسيع الحريات، وتمكين الصحافة من القيام بدورها.
وطالما كنت أعجب لحرصه الشديد على المشاركة بنفسه، أواخر التسعينيات وأوائل الالفية الثالثة، في الاجتماعات التي يتنادى لها رؤساء التحرير، وغالبيتهم لم يكونوا قد ولدوا بعد عندما كان رئيس تحرير قبل نصف قرن، لم يكن يحيط نفسه بأية هالة أو ترفع مشاركاً في هذه الاجتماعات متيحاً آراءه العميقة وتجاربه القيمة بكل تواضع.
ولعل من أهم آراء الأستاذ محجوب بالغة الأهمية والدلالات تضمنتها تلك الورقة التي أعدها الكاتب الكبير بعنوان «دروس الماضي وتحديات الحاضر» والتي قدمها في ندوة أقيمت بالخرطوم في 16نوفمبر 2003، في الاحتفال بمناسبة مرور قرن على بدء مسيرة الصحافة السودانية، لم تكن حديثاً يركن إلى الماضي، بل استشرفت كذلك مستقبلها ومستقبل الحالة الوطنية، وقّدم فيها عصارة خبرته الطويلة وتجاربه الثرة للأجيال الجديدة.
فقد طرح تساؤلات ملحة، مبعثها “سؤال ظل يتردد في الخاطر: أيهما أجدى أن نتمّعن في أحداث الماضي، أم نعالج أزمة العصر؟»، ويواصل تأًملاته «إنه سؤال يجعل تحديد الأسبقيات أمراً عصياً، فأزمات الحاضر كانت جنيناً في رحم الماضي، وهذه لا تنفصل عن تلك، ولعل التاريخ يلقي ضوءاً، أو بعض الضوء على الحاضر، والتمعن في ماضي الصحافة ونشأتها قد ينير لنا الطريق ونحن نعالج أزمتها الحالية”.
ثم يمضي ليضيف بعداً بالغ الأهمية قائلاً “ثم حقيقة أخرى لاتقل عن تلك أهمية، وهي أن أزمة الصحافة في أي مجتمع هي جزء من أزمة ذلك المجتمع، لا تعالج تلك في معزل عن هذه، فإذا عاش المجتمع أزمة اقتصادية، عاشت الصحافة تلك الأزمة، وإذا فقد المجتمع الحرية والديمقراطية اعتلّت الصحافة واختلّت أسسها وفقدت وظيفتها، وإذا افتقد المجتمع الاستقرار، سادت الفوضى في الصحافة”.
ويالها من كلمات وضيئة، عميقة النظر، بعيدة المعنى، فالصحافة ليست مجرد مرآة عاكسة للمجتمع تحمل أسفاراً بلا وعي، بل هي جزء لا يتجزأ من نسيجه تتفاعل معه في أحواله ومدافعاته، إذا اشتكى تداعت له ليس بترديد شكواه، بل يلزمها الواجب والمسؤولية أن تلعب دور الرائد الذي يسهم في جهود خروجه من دوامة اليأس إلى فتح أبواب الأمل.
ولا غرو في ذلك فالصحافة السودانية، كما يذهب إلى ذلك الأستاذ محجوب «هي أقدم مؤسسات الرأي العام في البلاد، سبقت الأندية والجمعيات، وسبقت الأحزاب والنقابات، وسبقت المجالس والبرلمانات، أسست الفكر الوطني، وبلورت الرأي العام، ووحدت ركب الحركة الوطنية”.
والصحافة السودانية من أقدم المؤسسات في أفريقيا والعالم العربي، سبقت في الظهور أقطاراً كثيرة، لكنها جميعاً لحقتها ثم تخطتها مظهراً ومخبراً، شك لا ومحتوى، وبقيت هي متخلفة عن الركب، فهي منذ فجر الاستقلال، وحتى اليوم لم تعرف معنى الاستقرار، تتقاذفها يد القدر من محنة لأخرى، فهي إما محاصرة، أو مصادرة، وإما تشكو من التعتيم أو التأميم، إما يواجهها الكبت أو يهددها الإغلاق، انعكس ذلك على المهنة فأضعفها، وعلى العاملين فيها فأرهقهم، وقطع حبلاً يصل بين الأجيال”.
ويطرح الأستاذ محجوب أسئلة المصير الكبرى التي تواجه الصحافة السودانية، كيف تنمو إذن وهي تفتقد الطمأنينة، والاستقرار؟، كيف تنمو إذن ويدها مكبلة بالقيود، ولسانها ملجم بالأوامر والقوانين؟، كيف تتقدم، وهي كاستثمار خاسرة، وهي كمهنة طاردة، وهي كمؤسسة محاصرة ومهمشة؟.
ومن عجب، يقول الأستاذ محجوب، إن بعض مما تعاني منه الصحافة اليوم، هو ما ظلت تشكو منه منذ بواكير نشأتها، ففي محاضرة له في نادي الخريجين بأمدرمان في سنة 1937، لخص أحمد يوسف هاشم ما كانت تعاني منه الصحافة آنذاك، فيوجز ذلك في «معاناة الصحفي في عدم الحصول على الحقائق من مصادرها الرسمية، وضيق المسؤولين بالنقد، وتعرض الصحف للعقوبات الإدارية التي تصل إلى حد الإغلاق، وتضييق هامش الحرية”، وهكذا لا يختلف كثيراً ما يشكو منه صحفيو اليوم عما اشتكى منه أولئك الرواد الأوائل.
ويعلّق الأستاذ محجوب على هذه المفارقة بمقولة حكيمة «إن التاريخ يلقي بظلاله حقاً على الحاضر”.
ويرى الأستاذ محجوب أن هناك درسان من موروث الصحافة السودانية: أولهما القدرة على الاستفادة من الوافد الجديد، وتطويعه لخدمة الأهداف الوطنية، واقتحام من الساحة رغم كل العقوبات، ثم توسيع هامش الحرية بالممارسة مع الاستعداد للتضحية وتحمل النتائج.
فالصحفي الناجح لا يقعده الحصار المضروب على الحرية لصحفية إنما يبحث عن الدروب والمسالك والنضال من أجل توسيع هامش الحرية المتاح له بالعزيمة والإصرار والتضحية، ويشدد قائلاً “هما صفتان بارزتان في إرث الصحافة السودانية ما زلنا نعيش لهما وبهما”.
ويضيف إن الموروث الآخر كان انفتاح صحافتنا على الجديد والاستفادة من كل مصادر المعرفة المهنية، سواء جاءتنا المهنية وافدة من الخارج، أو هاجرنا طلباً لها، فهي ضالة الصحفي المؤمن بمهنته.
ويرى الأستاذ محجوب أن قدر الصحافة السودانية منذ نشأتها الأولى أن تتحمل مسؤولية “التوعية” ومسؤولية “التعبئة” في آن واحد، وهو ما خلق لها ديناميكية خاصة، فمن بين كل مؤسسات المجتمع المعنية بالتعبير عن الرأي العام، كانت الصحافة هي الأولى مولداً وظلت تقف كالسيف وحيدة في الميدان أمداً طويلاً.
ويذهب إلى أن أزمة الصحافة السودانية في تقلب أحوال الدهر عليها، ذلك أنه كما زال عهد، وجاء عهد آخر يتحتم عليها أن تبدأ من جديد بإمكانيات جديدة وصحفيين جدد، وتعمل تحت ظروف جديدة، وكل ذلك أعاق تواصل الأجيال وانتقال الخبرات، واقترح حلاً لذلك أنه ينبغي أن يكون على رأس واجبات اليوم العمل الجماعي للانتقال إلى وضع دائم للصحافة يقيها شر هذه التقلبات، ويحقق للسودان استقراره.
وشدد على أن ذلك لن يتم إلا في إطار مشروع وطني يؤسس لسلام دائم واستقرار كامل وتحول ديمقراطي راشد ومستدام، فالصحافة في قناعته لن تخدم مصلحتها كمهنة إلا في إطار مشروع وطني جديد، ومن ثم يكون واجبها أن تتبنى ذلك المشروع وتبشر به وتدافع عنه وتروج له.
وكأني بها كلمات قيلت اليوم لتخاطب تحديات المرحلة التاريخية المفصلية التي مّهدت لها ثورة ديسمبر المجيدة، ولكنها في واقع الحال هي رؤية بشّر بها الأستاذ محجوب محمد قبل عقدين من الزمان، استشرافاً لما نعيشه اليوم، وما ذلك إلا نتاج حكمة يتمتع بها من رصيد خبرة طويلة، وتجارب متنوعة ومتعددة، ورصيد معرفي، ووعي كبير باستحقاقات الخروج من الأزمة الوطنية المتطاولة.
ومن خبر جوانب من سيرة الأستاذ محجوب في الحياة العامة خارج نطاق مهنة الصحافة يدرك كم كان إنساناً نادراً في تفاعله ومقاربته للشأن العام في بلد أدى تطاول أمد الصراع السياسي وهيمنة السلطوية العسكرية بتمثلاته المختلفة إلى تعقيدات وسيادة حالة استقطاب حادة في ظل غياب مشروع وطني متوافق عليه، لقد تميّز الأستاذ باستقامة وطنية تسامى بها فوق الانحيازات الضيقة من خلال انفتاحه بسعة أفق مع أي مبادرة أو تحركاً في الساحة يرى فيه ما من شأنه أن يسهم بقسط في حلحلة الأزمة الوطنية المستدامة ويقطع خطوات في طريق السلام والديمقراطية والتنمية.
ولهذا كله، وهذه شذرات عابرة، وغيض من فيض في سيرة ملهمة حقاً، وبعض ما سمح به المقام، فنحن أمام جهد معرفي عظيم لا يكفي أن نحتفي فيه بتأبين عابر، بل يجب أن نسعى لأن يستفاد منه في تعزيز المعرفة والوعي وترقية الحس الوطني.