رأي

من لامة الحرب إلى لامة السِّلم: إعمار السودان يجب أن يبدأ الآن…

قريب الله محمد الباز السنهوري

بينما لا تزال نيران الحرب تشتعل في مدن السودان، يبرز سؤال مٌلِح يتردد في أذهاننا: هل يجب أن ننتظر توقف القتال لنفكر في إعمار البلاد؟ تجارب العالم تقول العكس؛ الدول التي نهضت من تحت الركام لم تنتظر نهاية الحرب بل بدأت تخطيطها مبكراً، لأن البناء فعل إرادة قبل أن يكون مرحلة زمنية تلي الهدوء.

الحرب في السودان لم تكن حادثة عابرة، بل تجربة قاسية أعادت تشكيل الوعي العام فقد تعطلت مؤسسات وتراجعت خدمات وتضررت المدن بشدة، إلا أن هذه التجربة نفسها صنعت إدراكاً عميقاً لمعنى الدولة وأهمية وجودها، داخل هذا الواقع القاسي يجب أن يولد مشروع التنمية، فالبناء لا ينتظر نهاية الدخان، بل يبدأ في لحظة إدراك أن الانتظار نفسه قد يصبح سبباً في تمدد الخراب وتعاظم الكلفة.

إن كل يوم يمر يضاعف من تكلفة الإعمار، ولذلك يصبح التفكير الجاد في إعادة البناء ضرورة ملحة اليوم. فالرؤية المبكرة والتخطيط الاقتصادي وتقييم البنى التحتية، واستعادة المصارف لدورها، وتصور شكل الإدارة المحلية والخدمات العامة، كلها خطوات يمكن إنجازها حتى قبل توقف القتال، ومما لا شك فيه حين يرى العالم عزيمة حقيقية على البناء والتنمية، يندفع للمشاركة والمساهمة معك. أما إذا كانت البنى التحتية غير مهيأة، أو لم تُفتح قنوات التعاون، أو عُقّدت شروط الاستثمار، فإن ذلك يبعد ويثني رؤوس الأموال المحلية والأجنبية عن الدخول بثقلها في الاستثمار وفي رأيي الخاص  أن صيانة وتطوير البنية التحتية هي الخطوة الجوهرية والأولى لفتح المشاريع التجارية فهي الركيزة الأساسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وبجانب هذا التمهيد السليم للبيئة الاستثمارية، تأتي الشراكات الذكية—سواء قصيرة أو طويلة المدى—بوصفها حلاً استراتيجياً يضمن استمرارية المشاريع واستدامتها فهذه الشراكات لا تُسهِم فقط في جلب التمويل، بل تُثري أيضاً التجربة الوطنية بنقل الخبرات والتقنيات الحديثة التي أصبحت اليوم أساساً لكل مشروع ناجح فقد تغيّر كثيراً مفهوم التعمير بشكله التقليدي. فالعالم الآن في ظل الأدوات المتطورة لم يعد ينتظر سنوات لإنجاز مشروع واحد؛ إذ أصبحت التقنيات الحديثة تجعل ما كان يستغرق زمناً طويلاً يُنجز في فترات قصيرة بفضل التطور الهائل في مواد البناء وأساليب التنفيذ نفسها باتت سهلة جداً أي من الممكن بناء منشآت كاملة خلال أيام أو أسابيع لا شهور وسنوات.

إن الاستفادة من هذه التقنيات يحوّل ما كان يُقاس بالسنوات إلى عمل يُقاس بالساعات في ظل عصر أدوات الذكاء الاصطناعي، والمستشعرات الذكية، وأنظمة الإدارة الرقمية، وطرق البناء السريع وهذا التحول لم يقتصر على قطاع التشييد فقط، بل يمتد ليشمل الزراعة والصناعة والخدمات والمعاملات الإلكترونية وصولاً إلى تحسين معيشة الناس ، فإن بناء الثقة وجذب الاستثمارات يتطلب رؤية واضحة تضع التكنولوجيا والشراكات الذكية في قلب عملية التنمية لتصنع مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً واذا نظرنا إلى الدول التي سبقتنا في الأزمات كانت تدرك أن التعافي يحتاج إلى خرائط جاهزة لحظة توقف المدافع، لأن الزمن حينها يصبح أثمن من الموارد نفسها إضافة إلى خبرات المهاجرين وهي التي تشكل رأس المال المعرفي الأكبر لأي دولة خارجة من الحرب فالسودانيون الذين خرجوا خلال السنوات الماضية  وحتى الذين تنقلوا داخل ولايات  السودان اكتسبوا وتركوا خبرات واسعة في الإنتاج والخدمات وفي اعتقادي هذه ورشة تدريبية عملية واسعة ومتنوعة  شملت كل السودانيين وهو ما كان من الصعب تدريبهم وجمعهم في قاعات التدريب لهذه المشاريع الصغيرة والتي تنتظر التوسع حال توفرت الإمكانيات السابقة فقد امتلكوا  أهم أدوات الانتقال نحو إعادة البناء.

تعد تجربة رواندا بعد الحرب مثالاً ملهماً لنا؛ فقد نهضت من حرب طاحنة بعدما استفادت من دروسها القاسية، وأقامت دولة يحكمها القانون وتتمتع بهياكل قوية وشعب ملتزم، وهو ما ساعدها على تحقيق الاستقرار السريع وجذب المستثمرين من كل أنحاء العالم حتى أن بعض الجامعات السودانية فتحت فروعًا لها هناك خلال هذه الأزمة، مستفيدةً من البيئة المستقرة التي وفّرتها رواندا. ويمكننا القول إن العالم يأتيك حينما تساعد أنت نفسك أولًا وهذا ما لاحظته قبل أيام قليله وقت زيارة أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى رواندا وجمهورية الكونغو ودول الوسط الأفريقي ومما لفت انتباهي حقًا هو قدرة هذه الدول على النهوض من قلب الأزمات لتصبح نماذج تُلفت الأنظار وتستعيد مكانتها بثقة عالية فالسودان في مكان غني بالموارد التي ينتظرها العالم كما يمتلك السودان كوادر مؤهلة مشهود لها في كل بقاع العالم إذا فُتحت لها نوافذ المشاركة تتحول إلى شريك حقيقي في التنمية ومن الضروري القول أن رأس المال سواء سودانياً أو أجنبياً، لا ينتظر الظروف بل ينتظر الرؤية الواضحة فالاستثمار يحتاج إلى بيئة قانونية مستقرة، ومؤسسات فاعلة، وإدارة شفافة، ونظم محاسبية دقيقة، وهي كلها أمور يمكن العمل عليها الآن. ولا شيء يمنع أن تبدأ الدولة من داخل ظروف الحرب في إعادة ترتيب مؤسساتها، وإظهار ملامح المرحلة القادمة، لتبعث رسالة واضحة مفادها أن السودان الجديد يتشكل، وأن زمن الفوضى لن يكون مستقبل البلاد وعندما أقول المستقبل، فإن السودان لا ينبغي أن يعود إلى ما كان عليه قبل الحرب نحن أمام فرصة تاريخية لبناء ما يمكن تسميته بـ«السودان الحديث»؛ دولة حديثة تعتمد على اقتصاد إنتاجي حقيقي، وعلى إدارة محلية قوية، وعلى إنسان متعلم ومؤهل، وعلى حكومة صغيرة وفعّالة ومؤسسات مستقلة، وعلى اقتصاد منفتح يحفظ سيادة الموارد هذه ليست أحلاماً بل رؤية واقعية يمكن بناؤها إذا بدأ العمل مبكراً وتشكلت الإرادة الوطنية لقيادتها.

ويقيني القاطع أن السودان قادر على النهوض لا لأن الظروف تسعفه، بل لأن إرادة شعبه أكبر من التحديات وما دام الأمل موجوداً في قلوبنا، وما دام السودانيون يؤمنون بأن الحرب مهما طال زمنها ستنتهي، فإن لامة الحرب ستخلع، وتبدأ لامة السِّلم، ويبدأ الإعمار من حيث يقف الناس اليوم… لا من حيث ستنتهي الحرب غداً.

وعليك السلام ورحمة الله يا وطن،،،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى