من قاعات النقد إلى حقول الزراعة: قصة البروفيسور اليسع حسن أحمد*

خالد البلولة
في رحلة غير متوقعة، انتقل البروفيسور اليسع حسن أحمد،أستاذ النقد والدراسات المسرحية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، من قاعات التدريس والمنابر الأكاديمية إلى استصلاح الأراضي والزراعة في مسقط رأسه بقرية كرقس بولاية نهر النيل،بعد أن أجبرته الحرب على مغادرة منزله في شرق النيل، الذي تحول إلى حظيرة لتجميع الأغنام المسروقة.
ظل البروفيسور اليسع يقيم في حي الهدى بشرق النيل منذ أن أكمل تشييد منزله عام 2006،بعد تسع سنوات من البناء المتدرج، مستعينًا بنصائح أحد تجار مواد البناء الذي قال له ذات يوم: لا تستهن بأي مبلغ، حتى قروش البسكويت يمكن أن تبني بها بيتًا إذا أحسنت استغلالها،لكن مع اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، تغير كل شيء،ورغم تمسكه بالبقاء في الخرطوم اضطر لمغادرتها قسرًا، بعدما استولت قوات الدعم السريع على منزله وحولته إلى حظيرة لتجميع المواشي المسروقة.
يقول اليسع :لم يكن لمنزلي ذنب سوى أنه بلا طوابق، فاستُهدف دون غيره يقول اليسع بأسى،مضيفًا:- أن الفاجعة الأكبر كانت في مكتبته التي ضمت نحو ألفي كتاب في مجالات الأدب والنقد والثقافة، إلى جانب رفوف الماهوجني الفاخر التي حُرقت لاستخدامها كحطب للطهي،ولم تسلم حتى الأشجار التي زرعها أمام منزله، حيث قُطعت شجرتا مانجو وأربع نخلات نادرة من نوع “ود لقاي”، وتحولت إلى وقود للنار.
بعد مغادرته قسرًا إلى قريته كرقس، عاد اليسع إلى ذكريات الطفولة وأيام الفلاحة التي لم تفارقه رغم عقود من العمل الأكاديمي والإعلامي. يقول: أمضيت أكثر من ثلاثين عامًا بين قاعات الدراسة والبحث العلمي،لكن الزراعة لم تغادر وجداني، فأنا ابن بيئة زراعية، ووالدتي – رحمها الله – كانت تفلح الأرض بيديها.”
بدأ البروفيسور استصلاح ستة أفدنة من الأراضي المهجورة، وقام بتنظيفها بنفسه بمساعدة أبنائه، حيث أراد أن يعلمهم قيمة العمل اليدوي والاعتماد على النفس،كان أهل القرية يظنون أنني أستأجر عمالًا لتنظيف الأرض، لكنني كنت أفعل ذلك مع أولادي ،يروي اليسع بفخر، مشيرًا إلى أن الفلاحة لم تعد فقط مصدر رزق، بل صارت وسيلة لاستعادة اللياقة البدنية وتحسين حالته الصحية، إذ خفت عليه أعراض السكري، وأصبح أقل احتياجًا للأدوية.
واجه البروفيسور تحديات في توفير بذور الفول للموسم الشتوي بسبب ارتفاع الأسعار، لكنه وجد في أهل قريته كرمًا وإيثارًا خففا من معاناته. يقول: ذهبت برفقة ابن أخي لسؤال أحد أبناء المنطقة عن سعر البذور، وعندما علم الرجل أنني نازح بسبب الحرب، قال لي: لولا الظروف لأعطيتك البذور مجانًا،لكن خذها بنصف الثمن وسدد متى تيسر لك الأمر.
ورغم الظروف التي مر بها،لم ينفصل اليسع عن المجال الأكاديمي، حيث ظل يعمل على نشر أبحاثه العلمية، ومنها دراسته حول “دراما الإذاعة السودانية وتجليات المكان”،وأخرى عن (البنية الفكرية والاجتماعية للمثقف في السودان الحديث)كما أن إسهاماته في النقد الدرامي بالصحف السودانية مثل سنابل الثقافية والصحافي الدولي، واستمراره في البحث،يعكسان إيمانه بأن الإصلاح والبذل والإحسان قيم جوهرية، سواء في المسرح أو في الفلاحة.
بعد تجربته في استصلاح الأراضي، أصبح البروفيسور اليسع من أشد الداعين للاستثمار في الزراعة،معتبرًا أن الأرض هي ميراث الصالحين، وأن الشباب السوداني يجب أن يستغلها كفرصة للبناء والإنتاج، بدلًا من انتظار الوظائف التقليدية.
يقول اليسع:فقدت منزلي ومكتبتي،لكنني وجدت عزائي في العودة إلى الأرض، حيث يصبح البذر عطاءً، والعمل إصلاحًا، والأمل حياة جديدة.”