من ضوء المنشور: أسرار البوح، ينابيع الطفولة… تأملات في تجربة الفنان جمال حسن سعيد الشعرية (4-4)

عبد اللطيف مجتبى يكتب..

 

ديباجة

وأنت في طريقك نحو البدايات الجديدة  والاختلاف، لا بدّ لك من خيال جامح، وذاكرة حبلى بالمفارقات واللامنطق، بل لا بدّ لك من براءة تحمل جناحيك كفراشة تهوي إلى نارها في محبة ووداعة مفرطة، دون تفكير في المآلات، ذلكم هو زاد  الولوج لعوالم الكتابة ومطالع القصيد عند الشاعر  جمال حسن سعيد الذي (يرضع من ثدي الأسرار البوح)، في لغة تترسل من عوالم الطفولة وتحقن من معين زاخر بالرؤى الناضجة والثقافة والمعرفة والعرفان والفلسفة  فلنتابع التأملات في   تجربة الفنان الشاعر جمال حسن سعيد في هذا الجزء الرابع والأخير :

 

* مناخات النص عند جمال حسن سعيد:

 

عالم النص الشعري مليء بالمناخات المختلفة فلا يكاد يستقر النص عنده على حال واحدة فعلى الرغم من وحدة الموضوع إلا أنك تجد نفسك في منحدرات وجدانية ثم منزلقات فلسفية عرفانية ثم مواجهات عنيفة بأسئلة ممتدة في كل مساحات التجربة الإنسانية فعلى سبيل المثال نجد قصيدته المشهورة (زولة) التي تعج بالأجواء المتباينة التي تبدأ بوصفه لحبيبة أو امرأة ما أو أسطرتها، فقد ظلت ترواح في كل النص بين عوالم تلعب فيها دور المفتاح لها فهي الأنيسة :

زولة تفتح الروح ضلفتين

تخشك وتمرقك عادي

المراوغة المماطلة:

ما بتقفل الباب من وراها

بس تساسق بين شفقتك وحرقتك.

كما أنها هي نفسها ذلك النورس المنقذ من وحشة الغربة :

زولة كما النورس تجي

تنزل شواطي الإلفة والزمن الشفيف

وأنا زي مكتف في الرصيف

في الضلمة والليل المخيف

بتجيني تدخلني وتقيف .

نلحظ هذا المناخ الأسطوري الملمح من خلال تلك التعريفات المتلاحقة لهذه الزولة أو الإنسانة بطلة النص الشعري حتى أعجزه ذلك فيقول :

شرشرت تيبان السكات

على أرض رويانة وخريف

لينتقل بعدها المناخ في النص إلى أجواء مطيرة غامرة خضراء ومن ثم يعود ثانية إلى زمن التعريف فلا يقر على حال حتى يفاجئنا بوابل من الأسئلة مما يشكل مناخا آخر للنص

هذي البنية قد أتت

وانت ذاتك كالورق

من ذكرياتك تنجو وين

من مصدرك، من مظهرك، من جوهرك

من حرقة الجوف والعرق

لينقلنا إلى فانتازيا جديدة يختم بها النص كمحصلة نهائية :

هذي البنية تفتح الروح ضلفتين

وعلى ضفتين في نهر أحزان الزمن

تقعد تلوح باليدين.

حقيقة أن هذا النص ربما يحتاج إلى قراءة متأنية فهو عالم يضم كل عوالم الشاعر ويمكن أن يقف شاهداً على عموم التجربة الشعرية .

خلاصة القول: ومن عموم هذه الملامح العامة للخطاب الشعري لشاعرنا موضوع هذه الكتابة نلحظ أنه شاعر مغامر لا يخشى الولوج إلى عوالم الشعر ولا يأتيها إلا من أوسع الأبواب، دون استهلال أو عناوين، وتلك العتبات التي يتوسل بها الكتاب للدخول في عوالم الكتابة الشائكة خاصة وإن كانت شعرا فهو من الواضح أنه لا يتوسل للشعر والكتابة بقدر ما تجد أنه يخوض غمارها عارٍ من أطواق نجاة وسترات الغوص ويبدو ذلك جلياً بالوقوف عند تلك المطالع الصادمة:

– أظنك عرفتي

– فاتح شبابيك في النوم

– تعرفي يا مافي ومالية الفجة

– أهدتني عيونك كذا حلمة

– زولة

فهو بذلك كأنما يستل هذه المطالع من مونولوجات داخلية تجد طريقها إلى مباني النص حيثما تحققت عنده لذة ما ولحظة إغراء دفعت به إلى عوالم الورقة والتدوين فيمسك بالنص من ذروته ثم يعود من بعد ذلك إلى مماحكاته الفنية والجمالية .

من كل ذلك نستشف أن جمال حسن سعيد ذلك الكاتب الدرامي والمخرج والممثل والكوميديان المحبوب والمثقف، هو نفسه ذات الشاعر والفيلسوف والمفكر وهو في نفس الوقت ذلك العابث كطفل لا يلوي على شيئ من خوض كل تلك المغامرات فالنص عنده ساحة ملاهي كبيرة ملأى بمراجيح الأفكار ومياه اللغة وصلصالها الذي يشكل من خلاله دُمَى وتصاوير عالمه المليئ بملامح الطفولة.

كما نلاحظ أن عوالم الكتابة عنده منفتحة على بعضها بعضا فمثلما للدراما أثر واضح في كتابة الشعر عنده  فللشعر أثر كبير في كتابة الدراما عنده فتجد أن النصوص الشعرية عنده تحتشد بمشهدية عالية كما هو الحال في قصيدة زولة سابقة الذكر التي تضم عددا كبيرا من المشاهد الدرامية.

ختاماً على المتأمل في هذه التجربة أن يتحسب إلى أنه يخوض غمار تجربة مفخخة محتشدة بالتجارب المتقاطعة والمتوازية فأتمنى أن تكون هذه التأملات قد فتحت أبوابا للأسئلة وأذكت جذوة الفضول للعمل على المزيد من الدرس والتمحيص في عوالم الكتابة عند الفنان الشامل جمال حسن سعيد.

شكراً لمتابعتكم هذه الرحلة الطويلة الشاقة والممتعة في آن.

*ديوان أظنك عرفتي للشاعر جمال حسن سعيد

Exit mobile version