من سورة عبس إلى مسارات التعافي الوطني… هل تُبنى الدولة على صوت الأقوياء أم صمت الضعفاء؟

عبدالعزيز يعقوب
(١)
في سورةٍ قصيرةٍ محكمة، نزل الوحي يعاتب رسول الله ﷺ، لا توبيخًا، بل تهذيبًا لموازين الأولويّات في الدولة الوليدة.
كان النبي مشغولًا بحوارٍ مع زعماء قريش، يعرض عليهم الإسلام، ويقيم الحجة على من بيدهم مفاتيح مكة وبوابات التأثير السياسي.
فجأةً، يقترب منه رجلٌ أعمى، اسمه عبد الله بن أم مكتوم، يطلب علمًا وهداية. فيعبس النبيّ، لا كراهيةً ولا احتقارًا، بل انشغالًا بما ظنّه الأهمّ.
لكن السماء كانت ترى ما هو أعظم.
قال تعالى “عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَن جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى”
فجاءت الآيات تصحّح البوصلة، وتعلن — منذ اللحظة الأولى — أن دعوة الإسلام ومشروع الدولة لا يقومان على موازين القوم ومقاماتهم، بل على صدق المقبلين، ولو كانوا ضعفاء في نظر الناس.
ليست سورة “عبس” مجرد عتاب خلّده الوحي، بل هي بيان تأسيسيّ لأخلاق السياسة، ومعيارٌ قرآنيّ يُحاكم به كل مشروعٍ تغييري، في السلم كما في الحرب.
ولعلّ أبلغ ما في هذا المشهد، أن الوحي لم يُنزِل سورةً في سادة قريش ولا في تفاصيل حوارهم، بل خُلّد الموقف مع الرجل الكفيف، في سابقةٍ كونيةٍ للاهتمام بذوي التحديات الجسدية والعقلية. لتبقى العبرة أن من يُظَنّ به الضعف في أعين الناس، قد يكون في قلب الحدث عند الله تعالي.
هذا الدرس البليغ لا ينبغي أن يُقرأ من زاوية العبادات فقط، بل يُستعاد كلما هممنا ببناء دولة، أو كتابة ميثاق، أو عقدٍ اجتماعيّ جديد. فذوو الاحتياجات، والمهمّشون، والفقراء، والعمال، وأهل القرى المنسيّة، وعامة الناس — ليسوا جمهورًا للمساعدات، بل لبِناتٌ في أساس البناء السياسي والاجتماعي.
(٢)
وإن كانت السياسة تعني “إدارة شؤون الناس”، فالأجدر بها أن تبدأ بمن هم أشدّ حاجةً للإدارة والرعاية، لا بمن يملكون أدوات الضغط والصوت العالي والضجيج.
لقد علّمنا القرآن أن المجتمع لا يُقاس بكثرة صلاته وصيامه، بل بمقدار اهتمامه بمن لا يملك إيصال صوته. ولهذا، كان الرجل الكفيف الذي “جاء يسعى” أهمّ في ميزان الوحي من مجلس كبار الزعماء.
وفي الواقع السوداني، حيث ترتفع شعارات “السلام”، و”العدالة”، و”المصالحة الوطنية”، لا بد أن نستحضر هذا الدرس القرآني. فليس من المقبول أن نعيد إنتاج تجاربنا السياسية بنفس الصور القديمة، التي تقفز على جراح و آلام الشعب، وتمنح الأولوية للفاعلين من باب القوة والمناطقية، لا من باب الكفاءة والتأهيل والمقدرة.
(٣)
نحن اليوم أمام لحظةٍ حرجة، تستدعي إعادة تعريف للفاعلية السياسية. فالمواطن في معسكر النزوح، والمرأة التي فقدت أبناءها في الحرب، والطفل الذي يعاني من تحدٍّ جسديّ أو عقليّ ولم يجد مدرسةً ولا كُرسيًا — كلّهم شركاء في الوطن، لا ضيوف على مائدته. بل هم المعيار الذي يُقاس به صدق المشروع، وهم المحكّ الذي يُختبر عليه معنى النهضة.
إننا لا نريد أن تولد بنادق جديدة من صمتٍ قديم. فبناء السلام الحقيقي لا يتحقق عبر اتفاقات النُّخب وحدها، بل عبر اتّساع الطاولة لتشمل أولئك الذين لم يُسمع لهم صوت، ولم تُرسم لهم سياسات.
شباب السودان، وذوو الإعاقة، والنساء، وسكّان المناطق النائية والقرى المحروقة بنار الحرب — ليسوا مجرّد “مجموعات مهمّشة” في الرسومات البيانية وجداول الإحصاء، بل شركاء أصيلون في صياغة المصير والمستقبل.
إن تجاهلهم اليوم هو زراعة لبذور الانفجار غدًا. فحين تُمنع الكلمة، تُصنع الرصاصة. وحين يُقصى الناس من دوائر القرار، يعودون إلينا من ثقوب الجراح، لا من أبواب الدولة.
ولهذا، فإنّ الاستماع الحقيقي لمشاكل الناس واحتياجاتهم ليس تفضّلًا، ولا مجاملة، ولا مِنّة من القائمين على الأمر، بل هو ضرورة أمن قومي، ومطلبٌ أخلاقي، وشرطٌ من شروط الاستقرار ونجاح الإعمار والتنمية.
وليكن المبدأ “عبّر عن نفسك، ولا تسعَ لحرمان غيرك. واقترح الحلول الإيجابية”
عبر آليات ونوافذ تُطلّ على المجتمع، ليشعر كل فرد، مهما كان موقعه، أنه مشاركٌ في القرار. فكلما ازدهرت أدوات التعبير، خفت صوت السلاح، وارتفع صوت الحق.



