مع قرناص في أناها الأخرى
فيما أرى
عادل الباز
(1)
«لا تجزع من جرحك وإلاَّ كيف يتسلل النور إلى باطنك».
(2)
هل تسلل النور بالفعل إلى باطن (آمال) أم عسعس الظلام في كل حياتها؟ ذلك ما ستكشف عنه ناهد قرناص في روايتها البديعة (أنا الأخرى)، التي دفعت بها للمكتبة السُّودانية الأسبوع الماضي كأول رواية لها.
(3)
سعت قرناص من خلال سردها لـ“أناها الأخرى” للكشف عن تاريخ أحداث وعلاقات متداخلة وأشواقٌ ورُؤى وتوهُّمات اختلطت فيها الأحلام بالوقائع، الماضي بالحاضر، عبر أزمنة وأمكنة مُتنوِّعة. مدَّت الراوية أفقها لتعبر بنا إلى حواف الصراع الأزلي بين القيم والضَّرورات، بين الواقع والأحلام، بين انتهاز الفرص والصبر على العُمر المُبدَّد في سوح انتظار المجهول.
(4)
تأسَّس مبنى الرِّواية على مداميك الصُّدف، بل شكَّلت الصُّدف كل أحداث الراوية. ولا أعرف لماذا اختارت “قرناص” في سردها لحكاياتها هذا الأسلوب، وبالرواية مناحٍ كثيرة كان يمكن أن ينهض عليها البناء الرِّوائي بشكلٍ أكثر إبداعاً، على أنَّ “قرناص” في طريقة بنائها التي اختارتها اتسمت بكثير من الموضوعيَّة، بحيث إن الصدف تبدو بعيدة عن الافتعال، وتنسرب بيُسر إلى عقل القارئ دون إحساسٍ بقصديَّة خلق الصُّدف.
(5)
الصدفة وحدها التي قادت“آمال” (بطلة الرواية) إلى حيث مكان الأثاث لتلتقي فتى أحلامها المجهول “أبوعبيدة”، ثم الصدفة وحدها التي جعلت “أتبرا” مكاناً للقائهما، ثم هي وحدها التي كشفت لها ماضي حاتم عبدالله، حين حكى لها صديق والدها حكاية والد حاتم، الرَّجُل الذي هي على وشك الارتباط به. كان ارتباطها بحاتم نفسه صُدفة غير مخطط لها، فمنذ لقائها به في البنك إلى أن تكشَّفت لها حقائق حول تاريخه وحياته إلى نسف تلك العلاقة، كانت الصدفة تفعل فعلها في بناء الأحداث، الصدفة جعلتها تكتشف تاريخ والدها وتلك المأساة الكبيرة التي عاشها عقب فصله التعسُّفي في غمرة هوجة حكومة الإنقاذ بداية التسعينيات، حين عصفت بآلاف العُمَّال من السكة الحديد وجعلتهم على رصيف سكك مجهولة، يعانون مسغبةً وصراعاً نفسياً أودى بكثيرين إلى الجنون والذهول.
(6)
أحكمت قرناص “الرواية” صنعتها وهي في خِضَمِّ أجواءٍ وأمواج مشحونة بالعواطف لتمضي في سردٍ مشهدي لزمن واحد باتجاهين متضادَّين: الأوَّل، هو زمن نشاهد فيه خراب السكة الحديد وتسفيه أحلام عمالها، وزمن آخر هو زمان حاتم عبدالله، زمن الثراء السريع مجهول المصدر والأبوين، هذان الزمنان اللذان يمضيان متضادَّين، كان لا يمكن أن يجدا محطة مشتركة يقفان عليها، وكان لابُدَّ لهما من إنتاج علاقة عاطفيَّة مشوهة بين آمال وحاتم، فالأولى تنتمي إلى زمن السكة الحديد، والثاني “حاتم” إلى زمان الثراء السريع، هكذا فعلاقتهما منذ بدايتها لم يكن بوسعها الصمود، لأنه من المستحيل لقطارين يسيران باتجاهين متضادَّين في نفس السكة ونفس الزمن، أن يُكمِلا رحلتهما بسلام. تداعت علاقة “آمال” بـ“حاتم” فتداعت معها قيم كثيرة وأحلام وصداقات أحالت حياتها إلى ظلامٍ تام، فكيف يا ترى سيتسلل النور إلى باطنها، بحسب عبارة جلال الدين الرومي؟!
(7)
كانت “آمال” نفسها ضحية الزمنين بطرائق مختلفة، ويبدو أن ذلك هو ما فجَّر الوعي المُبكِّر بالمأساة التي عاشتها في مجتمعها الصغير (السكة الحديد)، ووطنها الكبير (السُّودان). هذا الوعي بتلك المأساة هي التي جعلت الليل يُخيِّم على عُمرها وأنضر سِنِيِّ حياتها، بحيث لا يمكن للنور أن يتسلَّل إلى داخلها رغم الجراح، بعكس مقولة جلال الدين الرومي التي استعانت بها في مقدِّمة الرواية.
(8)
تخيَّلت “آمال” في رحلة عودتها إلى “الخرطوم” أنها: «نفضت الغبار عن خزانات قلبها، وتخلصت من عناكب حزنها التي نسجت خيوطها على جدران حياتها». ولكن من سرد الراوية، يتضح أنَّ الأحزان التي رسمتها “قرناص” حولها لا يمكن الانسراب من داخلها إلى فضاءات أخرى، ولذا سواء أرادت “قرناص” (الكاتبة) أم لم تُرد، فلقد بُعثرت حياة “آمال” كلها، فلم تعُد إلاَّ حطامَ ذكريات.
ذكرى أبٍ تحطَّم تاريخه على سِكَكٍ بقراراتٍ ظالمة، ذكرى خطيب سيء الماضي مشبوه الحاضر، ذكرى حبيب كان حُلْماً وخيالاً انتهى إلى خيار آخر بعيداً عن أحلامها، بل قل أوهامها. لا شيء في حياتها لم ينسج العنكبوت حوله خيوطَ حزنٍ ما.
(9)
اعتمدت “قرناص” في بناء شخصيات روايتها “أنا الأخرى” على رسم صور عامة لهم، وقد تصلح تلك الطريقة في عرض الشخصيات ذات الأدوار الهامشيَّة، ولكن في بناء الأدوار الرئيسيَّة كان لابُدَّ أن نرى ضوءً أكثر على الأقل على ثلاث شخصيات أساسيَّة كان بإمكانها إثراء الرواية بشكل أكبر، الأولى شخصية “حاتم”، لأنها أساسيَّة ودالة على عصر وزمن مقابل لزمن آخر. الأخرى، هي شخصيَّة “آمال” نفسها التي لم نعرفها إلاَّ من خلال عملها (موظفة بنك) ومدينتها “أتبرا”، وكل تفاصيل شخصيتها تعرَّفنا عليها من خلال تداعيات سرديَّة أفادت بها “آمال” نفسها، وهذا يُضعِفُ البناء الأساسي لأي رواية. وهناك شخصيَّة دراميَّة وغاية في الثراء، اتضح ذلك من خلال السَّرد البسيط للراوية حولها، وهي خالة آمال.. لهذه الشخصيَّة عالمها الخاص الغني بالصراعات، إضافة إلى تاريخها ومواقفها وحكاياتها، كان غريباً بالنسبة لي إهمال هذه الشخصيَّة، فهي الشخصيَّة الوحيدة التي لها معرفة بتاريخ كل الحكايات في الأسرة، ولها أهداف من زواج “حاتم” بـ“آمال”، ولها طريقتها الخاصة في التعامُل مع الحياة.
(10)
بدا لي أن عدم بناء الشخصيات بشكل مُحكم، أضعف الرواية شيئاً ما، آخذ على “قرناص” أيضاً إصرارها على إقحام نُصُوص شعريَّة ومقولات – على جمالها – لكنها خارج سياق الرواية، أستثني من ذلك استعانتها بنصٍ من جلال الدين الرومي رغم أنها ذهبت بحكايتها بعيداً عنه.
متوقع في أي عمل أوَّل لأي كاتب، أن تكون عليه ملاحظات هُنا وهناك، إلاَّ أنَّ المهم هو أننا حصلنا على قاصَّة لها خيال وطاقات سرديَّة واعدة، كما لها قدرةٌ على إمتاع القارئ بحكاية تأخذ بتلابيبه ولا ينفك منها حتى ينتهي من غلافها الأخير.. شكراً لـ“قرناص” على إهدائنا هذه الرواية الجميلة.
من أرشيف الكاتب