تقارير

معارك الخرطوم.. حرب الإعلام

المليشيا استعانت بغرف متخصصة وجيشت الكثيرين للسيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي

تقرير/ يس علي يس

يقول البروفيسور فيلاديمير براتيك من جامعة هولينز بولاية فرجينيا الأمريكية في تعريفه للحرب الإعلامية إلى أنها “عملية نشر الأفكار، أو المعلومات، أو الإشاعات التي من شأنها إلحاق الضرر بمؤسسة، أو قضية، أو شخص ما، وذلك بتعمّد طرح وجهة النظر من ناحية واحدة فقط وعرضها على الجمهور للحصول على تأييدهم وموافقتهم الإجبارية”، وهو عين ما قامت به مليشيا الدعم السريع وداعميها خلال حرب الرابع عشر من أبريل في السودان والتي اجتاحت الخرطوم ثم ولايات السودان المختلفة، ولعبت غرف المليشيا دوراً بارزاً في الحرب الإعلامية ونجحت إلى حد كبير في السيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي المنتشرة بتمرير الأخبار التي ترغب في سيطرتها على الشارع العام وتكوين رأي عام ضد الجيش السوداني والتشكيك في قوته وقدرته على حسم المعركة، بمقابل اكتفاء الجيش بما يصرح به الناطق الرسمي عن الموقف العملياتي اليومي في أرض المعارك.

فلاش باك

الحرب الإعلامية ضد الجيش السوداني لم تبدأ خلال فترة الحرب الأخيرة، ولكنها نشطت قبل ثورة ديسمبر ضد نظام الإنقاذ، ونشطت بشكل كبير خلال فترة اعتصام القيادة العامة، ولعل الناس يذكرون الكثير من الأحداث التي كانت تلمع شخصيات بعينها من سواء من الشخصيات السياسية المطروحة، أو من الموجودين في محيط الاعتصام، لأهداف مستقبلية كانت تقرأ التحولات وتعد المسرح للجديد، من خلال تهيئة الرأي العام لتقبل قيادات جديدة مدروسة بعناية لتلعب دورها في مسرح الأحداث فيما بعد، كل شيء في محيط الاعتصام كان مدروساً ومرتباً بعناية، حتى الشعارات التي ملأت حناجر الهتيفة كانت تمرر بهدوء وكأنها وليدة اللحظة، فخلقت زوبعة إعلامية طغت على الشارع المتحفز للثورة، فكانت جملة الأسماء التي لعبت دورها فيما بعد في مسيرة الثورة.

شيطنة

والملاحظ أن هنالك شعارات كانت تخرج حذرة لجس نبض الشارع ومدى تقبله لهذه الجزئية أو تلك، فتمت شيطنة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وتم تصويره على أنهم قتلة، ومجرمين، بل شكك حتى في أنسابهم، وكانت شائعة قوية بأنهم “أطفال المايقوما” أو فاقدي الأبوين احتواهم جهاز الأمن الوطني ليكونوا وقوداً لانتهاكاته، وهي شائعة سرت في الأوساط بقوة، ووجدت حظها من الرواج، وهو ما سهل عملية تفكيكه مستقبلاً قبل أن يكتشف الناس أنهم بلعوا الطعم بسهولة، بعد أن نشبت الحرب، وافتقاد هيئة العمليات بالجهاز للمساهمة في حسم حرب الشوارع.

من المستفيد من قتل المتظاهرين؟

إن فكرة أن يكون الدعم السريع هو البديل للجيش السوداني كانت بذرته في محيط القيادة العامة، فكثير من الأحداث المصنوعة كانت تقوم على إحراج الجيش وقيادته وجنوده، وتصويره بمظهر العاجز، ثم التركيز على تعليق كل ذلك على شماعة النظام السابق، ومن ثم الخروج بشعار “معليش ما عندنا جيش” لتوسيع الهوة بين المواطن وجيشه، وكان قد سبق ذلك الكثير من عمليات اغتيال المتظاهرين بواسطة القناصة، ولعل الملاحظ في عمليات الاغتيال انها كانت تستهدف أيقونات المواكب، ليكون وقع الخبر كبيراً وأسرع انتشاراً، ولكن بمنطق الأشياء فإنه لا مصلحة للجيش أو القوات النظامية في تأجيج الشارع بالقتل، بل على العكس تماماً فإن الجيش كان يبحث عن التهدئة لإعادة ترتيب الأمور تمهيداً للانتخابات وقيام الدولة المدنية التي كانت تنادي بها ثورة ديسمبر، ليبقى السؤال المحرج: من المستفيد من قتل المتظاهرين؟ وهو ما ظل يبحث عن إجابة حتى قيام الحرب واكتشاف النوايا.

إعلام ما بعد الحرب

في كتابه “الشائعات في الحرب الأمريكية على العراق” قال ديفيد فيدال إن الحرب الإعلامية تمر بثلاث مراحل مهمة، أولها التمهيد، ثم التبرير، ثم أخيراً التنفيذ، ولعلها من الأمور المتبعة في كثير من دول العالم حتى في أوقات السلم، فكانت الشائعات تطلق بزيادة سعر الدولار، ومن ثم يتم نفي الخبر بعد يوم أو يومين من إطلاقه وفي الأثناء يقدم المحللون قراءتهم للزيادة سلباً أو إيجاباً ومن ثم أخيراً يتم تنفيذ القرار بعد قراءة ردود الأفعال بحيث يكون الشارع مهيئاً لقبوله بشكل كامل، أما في أوقات الحرب كما يحدث الآن فالملاحظ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي انتشار الكثير من المقاطع المفرحة للشعب من جانب غرف المليشيا باغتيال قائد ميداني مثلاً أو تحرير منطقة مهمة وحساسة ينتظر الشارع خبرها، ثم ما يلبث أن يبث مقطع مضاد تماماً ينفي الفيديو بآخر جديد من موقع الحدث، وهو ما يعرف بأحباط الشارع العام وتشكيكه في قدرة جيشه على تحرير مناطقه، وهذه المقاطع انتشرت كثيراً في بدايات الحرب وأدت أغراضها إلى حد ما، ولكن بعدها عرف الشارع أنها مجرد ألاعيب إعلامية من العدو، ولم يعد مهتماً بما ينشر قبل التأكد من القيادة الرسمية للجيش، ثم تطورت الوسائل بتطور الحرب وتقدم القوات المسلحة في محاور القتال، فقد أصبح المواطن في قلب الأحداث في الأحياء المختلفة وبات هو المصدر الأساسي للمعلومة من خلال الاتصال أو من خلال وجوده في مواقع التواصل، ليؤكد أو ينفي خبر ما في محيط منطقته، وهي خطوة أيضاً خطتها غرف إعلام المليشيا التي جندت الآلاف للتفرغ لمواقع التواصل والتشكيك في أي خبر من شأنه رفع الروح المعنوية للشعب.
في هذا المنحى نشطت الكثير من الحسابات الوهمية في موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” والهدف منها هو الدخول إلى الصفحات الكبيرة الموالية للجيش، والتشكيك في أخبارها، فالمتابع الدقيق يجد مثلاً أن خبر تقدم الجيش في منطقة ما تظهر فيه تعليقات من أسماء حركية على شاكلة “ضوء القمر ، مطر الخريف، السنيورة، بت الريف” وغيرها من الأسماء الوهمية، لتنشط في المنشورات الأكثر جذباً والتعليق عليه بتكذيب الخبر أو نفيه مع الإشارة إلى أنه موجود في موقع الحدث، لينشط رفاقه في الرد عليه ما بين مؤيد ومعارض، ليتم تغبيش الحقيقة وإرباك القارئ الباحث عن الانتصارات، وبالتالي يفقد الخبر أهميته وحشد الدعم خلف الجيش، وهو أسلوب متبع الآن في الحرب ولم يتوقف حتى اللحظة، ولعل الملاحظة الأبرز في تلك الحسابات الوهمية أنها عادة ما تصدمك بعبارة “قام فلان بقفل حسابه الشخصي” ولا نشاط له إلا في التخذيل في المجموعات الكبيرة فقط.
أسباب التفوق الإعلامي للمليشيا
بخلاف أن المليشيا تجد دعماً كبيراً واستعانة بخبراء في مجالات الإعلام وعلم الشائعات وتخصيص غرف متخصصة في المجال وتجييش الآلاف لخدمة المشروع الإعلامي، فقد تصادف اختلاف استراتيجيتان في الحرب الإعلامية، فحرب المدن تعتبر من الحروب الحساسة جداً، والتي يساوي فيها الخطأ الكثير من الخسائر، وأن معلومات التحرك تكون مخفية إلى حد بعيد حتى عن القيادات المدنية في الدولة، في مقابل عدو لا يملك شيئاً في أرض الواقع سوى الإعلام واللعب على العواطف وتثبيط الهمم ليقول إنه مسيطراً على أرض الواقع، لذلك فالمتابع العادي يمكن له أن يبتلع الطعم ثم يقرر ضعف الجيش وقوة المليشيا، ولكن المثقفون والمتابعون يدركون من خلال سير المعارك وتحولها من النقطة صفر إلى أطراف العاصمة يقدم بياناً بالعمل على أن الجيش في تقدم صامت، وأن انتصاراته لا تحتاج إلى غرف إعلام بل يحكيها الواقع وتحول جغرافيا المعركة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فغياب المعلومة الكاملة ساعد المليشيا للتقدم في مضمار الإعلام، ولكنه منح الجيش الصامت التقدم على أرض الواقع، وهي الجزئية التي لعبت عليها الغرف الإعلامية للمليشيا في زمن الحرب، وغياب المعلومة هو واحد من اسس الحرب الإعلامية، التي تمسك شيئاً من الحقيقة ثم تنسج حولها الأكاذيب وتروج لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى