عبدالسميع العمراني يكتب
حينما كتب الطيب صالح أطروحته الرائعة (تفرد مدن) والتي تناول خلالها بعض المدن والعواصم التاريخية ومنها مكة المكرمة والتي قال عنها إنك إذ تدخلها وأنت تغوص في أعماقها بحثاً عن صور وحكايات قديمة كان قد رسمها خيالك، كما تحدث الطيب صالح عن بعض المدن السودانية بشوق وحنين مثل سواكن ومروي وأم درمان وكريمة وغيرها، وربما لم يدر بخلده ما آلت إليه الآن أحوال تلك المدن من دمار وتخريب متعمد من مليشيات الجنجويد والمرتزقة فهو دمار بهدف طمس الملامح ومحو التاريخ لذلك طال بصورة واسعة المباني الأثرية وطالما تغنى العديد من الشعراء والأدباء بجمال وسحر بعض المدن السودانية فقد غنى الكابلي لجبل مرة وجماله الباهر وخيراته الوفيرة. كما سحرت كسلا الخضراء توفيق صالح جبريل وكجراي والحلنقي والقضارف كتابات طه الريفي والسلمابي وخليل عجب الدور ، كما كتب نثراً وشعراً عن المدن السودانية الأديب عبدالله الطيب عن دامر المجذوب وكتب عنها محمد المهدي المجذوب وضرار صالح ضرار ومحمد المكي إبراهيم وعبدالله على إبراهيم والزين عمارة وتاج السر الحسن صاحب أنشودة آسيا وأفريقيا الخالدة والعباسي عن سنار وأحمد محمد صالح عن دنقلا، هؤلاء الأدباء والشعراء تحدثوا عن المدن السودانية ولم ينسوا الإشارة إلى ماتحمله من قيم وأعراف وتقاليد متفردة.
نعم أن العديد من مدن السودان إن لم نقل جميعها تعاني من شح وضآلة في بعض مظاهر الحداثة العصرية ومقومات المتمدن والرقي من طرق نظيفة معبدة وانعدام بعض الخدمات الضرورية مثل المياه والكهرباء والصرف الصحي ومصارف الأمطار والمقاهي والمطاعم النظيفة الراقية، ورغم ذلك فإن المدن السودانية بوضعها الحالي تعني ماتعني للسودانيين فهي ملح الأرض لهم وهي عبق المكان والذكريات ورائحة الغبار والحوش المرشوش وجلسة العصاري والدافوري وشاي المغربية وغيرها من قيمنا وأعرافنا وتقاليدنا التي تحمل ثقافتنا التي تفردنا بها عن كل العالم، نحن أفراحنا مختلفة في كل القرى والمدن ولحظات الحزن عندنا مختلفة وحتى مناسبات التعازي عندنا أكثر تفرداً والمناسبات الصغيرة من عقيقة أو كرامة مسافر أو قادم أو فرحة بوظيفة أو منزل جديد أو قدوم ولد بعد متوالية بنات، كلها مناسبات تميزنا عن العالم، السودان لايشبه أفريقيا أو وطن العرب في شيء في عاداته وتقاليده ونمط حياة مواطنيه، نعم أفرزت هذه الحرب المفروضة قسراً على السودان، أفرزت أسوأ ما فينا من سلوك مجتمعي فغابت العادات والقيم السمحة التي عرفنا بها طوال قرون من الزمان.
وقد أفرغت المعارك الحربية العاصمة القومية من السكان وهي كانت تضم أكبر كثافة سكانية في السودان، وتبعتها بعد ذلك ثاني أكبر المدن وهي حاضرة ولاية الجزيرة مدني وأعداد أخرى نزحت من ضواحيها ويقدر عدد من نزحوا عن العاصمة والجزيرة بأكثر من خمسة عشر مليون مواطن، عادوا إلى مدن الشرق وكردفان ونهر النيل والشمال والنيل الأبيض وبعض مدن الجنوب الأوسط مثل سنار وصولاً إلى الدمازين، والواقع الحالي يحكي عن معاناة كبيرة تواجهها هذه المدن لأنها وربما لأول مرة في تاريخها تستقبل مثل هذه الأعداد الهائلة من الضيوف والنازحين والعابرين، ولعل مأساة هذه المدن تتمثل في افتقارها إلى البنيات التحتية خاصة المجمعات السكنية أو الطرق الفسيحة والماهلة أو حتى مناطق الترفيه من حدائق ومنتزهات، فمدن السودان أشبه بالقرى الأفريقية الكبيرة والآن الكل فيها يعاني الضيوف وأهل الدار إذ صعبت الحركة داخل الأسواق وتعاني الخدمات ضغطاً كبيرا مثل المياه والكهرباء ومراكز العلاج من مستشفيات ومراكز صحية وعلاجية .
وعلها فرصة سانحة الآن لمن يتولون ملف الحكم المحلي أن تتم دراسات عميقة لفترة مابعد الحرب لتقييم تجارب التنمية الاقتصادية في كل مناطق السودان، حتى تتمكن هذه الحواضر من أن تستقبل اي سكان جدد أو سياح أو ضيوف لأي مناسبات طارئة أو مرتب لها، المجمعات السكنية والمدن الحديثة واحدة من أهم مطلوبات العصر وهو نوع من الاستثمار عالي الربحية، ولا يكلف الدولة شيئاً فسوف يتكفل به القطاع الخاص وينتظم الان في معظم مدن العالم، ونأمل أن تنقل تلك التجارب لسودان مابعد الحرب على أن لاتتكرر التجارب المخزنة لما كان يعرف بصندوق الإسكان والتعمير أو المجمعات السكنية التي نفذتها بعض النقابات والمؤسسات الحكومية خلال السنوات الماضية والتي كانت عبارة عن عشرة بلوكات وأبواب حديد يكسوها الصدأ.