مستقبل الاستقرار في الجوار الإقليمي للسودان في ظل الحرب

مهند عوض محمود
منذ اندلاع حرب السودان الحالية، في إبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية، وبين مليشيا الدعم السريع الإرهابية التي خرجت على سلطة الدولة واعتدت على حياة المواطنين وأمنهم وممتلكاتهم، بات واضحًا أن هذه الحرب لم تعد شأناً داخلياً محضاً، بل تحوّلت إلى أزمة ذات تداعيات واسعة تهدد أمن واستقرار الجوار الإقليمي للسودان بأسره.
لقد كشفت هذه الحرب هشاشة الحدود وتشابك المصالح بين السودان ودول جواره الممتدة من تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى إلى جنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا، وصولاً إلى مصر التي ظلّت الظهير الصادق والداعم الثابت لوحدة السودان وسلامة أراضيه في كل المراحل.
ومع استمرار النزاع، حرصت الدبلوماسية السودانية على التحرك بمسؤولية واتزان، مقدمةً الحقائق والوثائق في المحافل الإقليمية والدولية لتوضيح خطر المليشيا الإرهابية على أمن السودان وأمن جواره، مع تأكيد الخرطوم التزامها بسياسة حسن الجوار وحماية المصالح المشتركة.
في الثالث عشر من يوليو 2023 استضافت مصر قمة دول جوار السودان في القاهرة، وجمعت خلالها قادة وممثلي الدول المتأثرة بالحرب لمناقشة تداعيات النزاع وسبل تأمين الحدود وضبط حركات النزوح وتنسيق المساعدات الإنسانية. ورغم مرور الوقت، فإن ما يجري اليوم يؤكد أن مخرجات تلك القمة ما زالت بحاجة إلى مراجعة وتفعيل عملي حتى لا تتحوّل الفوضى إلى واقع يتجاوز حدود السودان ليهدد استقرار الإقليم بأكمله. وقد أثبتت مصر من جديد أنها الأكثر تأهيلاً سياسياً وتجربة بحكم موقعها وصلتها التاريخية بالسودان، فهي الدولة القادرة على قيادة أو رعاية أي جهد جماعي يُترجم الرؤية إلى موقف موحد يحمي أمن الجوار.
تتوزع آثار الحرب على دول الجوار بدرجات متفاوتة؛ فتشاد من أكثر الدول تأثراً بالنزاع بحكم حدودها الطويلة والمفتوحة شرقاً وتداخل القبائل والمجتمعات المحلية بين شرق تشاد وغرب السودان. وقد استقبلت أراضيها مئات الآلاف من اللاجئين الفارين من مناطق النزاع، ما ضاعف الضغط على مواردها الهشة وزاد من التحديات الأمنية والاجتماعية في ولاياتها الشرقية.
إن استمرار الحرب دون حسم يفتح الباب أمام عصابات التهريب العابرة للحدود وتدفق السلاح، وهو ما يهدد بتحوّل المناطق الحدودية إلى بؤر للفوضى قد لا يسلم منها أحد. وهذه حقائق ينبغي أن تكون موضع نظر لدى كل من يرى في تأجيج الحرب وسيلةً لمكسبٍ عابر، لأن نار الفوضى لا تعترف بالحدود.
أما جنوب السودان فيعاني من تراجع صادرات نفطه التي تمر عبر ممرات العبور في السودان، بينما تتابع إثيوبيا الوضع بقلقٍ على استقرار حدودها الغربية مع السودان. وتتابع إريتريا الوضع من باب حسن الجوار، وهي دولة شقيقة ظلّت تدعم وحدة السودان واستقراره إدراكاً منها بأن أمن السودان ضمانة مباشرة لأمنها الإقليمي. أما ليبيا وأفريقيا الوسطى فهما مهددتان بتحوّل حدودهما — الجنوبية في حالة ليبيا، والشمالية الشرقية في حالة إفريقيا الوسطى — إلى ممرات غير شرعية للذهب المنهوب والسلاح والعناصر الخارجة عن القانون التي تُستخدم في إطالة أمد الفوضى. وفي المقابل، ظلت مصر تتحمل عبئاً إنسانياً كبيراً نتيجة استقبال موجات النزوح، وتمسّكت في الوقت نفسه بموقف ثابت رافض لأي حلول تُفرض من الخارج تنتقص من وحدة السودان أو تحاول شرعنة المليشيا الخارجة عن القانون.
ولا يمرّ هذا دون الإشارة إلى تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال قمته الأخيرة مع قادة خمس من الدول الإفريقية في التاسع من يوليو الجاري، حين تحدّث بوضوح عن ضرورة إحلال السلام في السودان باعتباره نقطة ارتكاز لاستقرار إفريقيا بأكملها. وهو حديث يؤكد أن المجتمع الدولي يرى السودان ركيزة أساسية للأمن الإقليمي، لكنه يذكّر في الوقت نفسه بأن الدور الحقيقي على الأرض سيظل بأيدي الأطراف القريبة التي تملك الثقة والأهلية لقيادة أي مسعى ناجح، وفي مقدمتها مصر الأكثر تأهيلاً بحكم علاقاتها وموقعها ومصالحها المباشرة مع السودان.
لذلك لابد أن تُراجع دول الجوار المتأثرة بالحرب ما خرجت به قمة القاهرة وتفعّله بصدق لحماية حدودها ومنع استغلال أراضيها في تغذية موارد الحرب. ولابد أن يواصل السودان جهوده الدبلوماسية والسياسية بتنسيق محكم، وأن يدعم إعلامه الوطني كشف انتهاكات المليشيا الإرهابية وفضح حملات التضليل للرأي العام الدولي. ولابد أن يبقى الصف الداخلي متماسكًا خلف القوات المسلحة السودانية والقوات المساندة والمستنفرين من أبناء الشعب السوداني، إدراكاً أن هذه معركة وجود لا تحتمل أنصاف المواقف ولا حلولاً تُفرض من الخارج على حساب وحدة الدولة.
إن استقرار الجوار الإقليمي للسودان لا ينفصل عن السودان القوي الموحّد. وكل تأخير في إنهاء هذا التمرد يعني مزيداً من النزوح والتحديات العابرة للحدود التي سيتحمّلها الجميع. ومع ذلك يبقى الرهان على وعي السودانيين وإيمانهم بأن دماء الشهداء لن تذهب هدراً، وأن السودان بمساندة أشقائه المخلصين سيظل صمام أمان حقيقي لهذه المنطقة مهما حاولت مشاريع الفوضى العبث باستقراره.
نقلا عن “المحقق”



