محمّد المرتضى مُصطفى (١٩٣٧ – ٢٠٢٤)
في وداع نجمٍ في فن إدارة الدولة (Statecraft) و المسؤولية تجاه الناس
محمّد محجوب هارون
ترجّل، الثلاثاء الموافق التاسع عشر من نوفمبر ٢٠٢٤، في سان ريمون، كاليفورنيا، بالولايات المتحدة الأميركية، صديقُنا و أستاذنا محمّد المُرتضى مصطفى، من دُنيانا إلى آخِرتِه، مُقبلا لا مُدبرا. إنّا لله و إنّا إليه راجِعُون.
مِهنيّا ينتمي مُرتضى إلى شريحة صغيرة من السُودانيين و نُخَب الجنوب (جنوب العالم) تفتّقت مقدراتهم و مهاراتهم كرجال و نساء دولة، و مثقفين ذوي حساسية اجتماعية متجذّرة.
على غير ما عَهِد السُودانيون و السُودانيات، حصُل مُرتضى على الدرجة الجامعية في جامعة أديس أبابا ليلتحق، من بعد، بالخدمة العُمُومية، على الصعيدين الوطني و الدولي. لم يغادر الخدمة العُمُوميّة إلا إلى مزيد من التأهيل النظامي، الذي بلغ فيه مبلغا، لتمكينه من مزيدٍ من التأهيل خادِما عُمُوميّا.
تدرّج مُرتضى في هيكل الخِدمة العُمُوميّة من مدخلها، شأن القادمين بمعيار الأهلية، حتّى أعلى هرمها وكيلا لوزارة العمل السودانية. صعد مرتضى السلم من قاعدته إلى أعلى دَرَجِه، بكسب يديه دون أن يتسوّل عونّا، لصعُود الدَرَج من أحد. ما استند على ظهرِ غير. لم يقلّه إلى أعلى (أصانصير) محسوبية!
أضحى مُرتضى وكيلا لوزارة العمل في خِدمّة طويلة. لم يكن محض وكيل وزارة بل كان رجل دولة مدجّجا بالفكر و الخبرة و الحُكمة. و لذلك كان مُعتدّا، بلا خُيَلاء، بالتزام طريق الحق و سداد الفكر و الحكمة. ربّما كان هذا سببَ مغادرته منصبه وكيلا لوزارة العمل في العام ١٩٨٨.
كان مُرتضى واسع الانفتاح على معارف الشعوب و تجاربها في إدارة شؤونها العُمُوميّة، كما كان مُتابعا لسيرة الدولة السُودانية و ما حسُن من سمعة أداء أجهزتها. سمعته مرارا يحكي عن كيف أنّ سكك حديد جنوب أفريقيا كانت تُرسل كوادرها للتدريب في هيئة سكك حديد السودان في ستينيات القرن الماضي. كما حكى لي عن أنّ حكومة كوريا الجنوبية بعثت مندوبين عنها للإطّلاع على تجربة مراكز التدريب المهني في سودان سبعينيات القرن العشرين!
كان كلفا بتطوير سياسات العمل و تشريعاته و ببناء مؤسّسات الدولة ذات الصلة بالعمل و الخدمة العُمُوميّة. مع ذلك كان لمُرتضى، خصّه الله بواسع رحمته و إحسانه، اعتناءا كبير بالحركة النقابية. شغل مُرتضى نفسه ببناء مؤسسات الحركة النقابيّة الوطنية في سبعينيات القرن العشرين و ثمانينياته، تحت مظلة إتّحاد عُمال السودان. أعتقد أنّ مُرتضى هو صاحب فكرة بنك العُمال (ربّما كان بنكا فريدا في الإقليم الأفريقي الذي أسّسه إتحاد عُمال وطني)، و ربّما كان هو مُهندس تأسيس أكاديمية العُمّال، ما كان مؤشراً لتطوير كبير في سياسات الحركة النقابيّة و مجالات تركيزها. و لعلّ ذلك ما نقل إتّحاد العُمال السوداني، على نحوٍ حاسم، من قبضة اليسار إلى الوَسَط، كما حدث في انتخابات إتّحاد عمال السودان في العام ١٩٨٨، التي سيطر عليها تيار الوَسط بقيادة المرحوم محمد عثمان جمّاع. كان مُرتضى هو العقل المفكر لإتّحاد العُمّال و المهندس الذي كان يَصِل الليل بالنهار مشغولا بالحركة النقابيّة العمالية من وراء الكواليس.
كما لم تكن علاقة مُرتضى بالكتاب نُزهة أو ترفا. و لم تكن حفاوته بأصدقائه معبرا عنها بأقل من إهداء كتاب من إمهات دُور النشر عالمية، فضلا عن قصاصات من الصحافة العالمية يختارها باعتناء، يقدمها طبقا شهيّا مرّة و مرّة.
بعد أن طلبت الخدمة العُمُوميّة الوطنية منه مُغادرة موقعه وكيلا لوزارة العمل، عَرَضت الخدمة العُمُومية الدولية على مرتضى الالتحاق بها في موقع قيادي. هنا شغل مُرتضى منصب مدير معهد الدراسات العمالية لأفريقيا جنوب الصحراء في هراري، زيمبابوي. هذه مؤسسة تابعة لمنظمة العمل الدولية (ILO). إنتقل من بعد إلى القاهرة مديرا لمكتب منظمة العمل الدولية لشمال أفريقيا. و عمل مُستشارا لمجلس وزراء العمل في إقليم أفريقيا جنُوب الصحراء.
غير أنّ مرتضى لم تعتقله الوظيفة العُمُومية في نطاقها المحدود. مقدار ما كان مُرتضى رجل دولة من نجوم قادة الخدمة العُمُوميّة، كان مُنَظّرَ دولة يراقبها في ماعونها الكُلّي الأوسع. كان ينبّه، بلا كلّل، إلى مأزق الدولة السُودانية. أشار لي، و لأصدقاء له عديدين، بما يُفيد بوعيه، منذ سبعينيات القرن العشرين، بمؤشرات لإنهيار الدولة السوُدانية و كيف أنّها تعزّزت يوما بعد يوم، و أذاع نبوءته تلك في حديث سارت به الرُكبان أدلى به أمام جمهور في منبر جريدة الصحافة السُودانية (٢٠٠٤)، حتّى رأى شيئا من هذا القبيل يتجلّى أمرا واقعا! كان مرتضى يعزو إنهيار الدولة السُودانية لسبب رئيس يتمثّلُ في غياب فكرة الدولة و وظيفتها و إنعكاس ذلك على مُجمل أداء أجهزتها ما يفضي و (أفضى فِعلا) لحالة انهيار نعيش في كَنَفِها يومنا هذا!! فكرة مرتضى في أُفول الدولة هذه (عدم توفر المؤسسات أو عجزِها) سبق أن طرحها مفكرون كِبار من بينهم، مثالا لا حصرا، صمويل هنتنجتون و دارون عاصم أوغلو و جيمس روبينسون.
من موقع قريب منه لأمدٍ طويل لم تُخطئ عيناي اكتشاف حساسية مُرتضى الاجتماعية، إذ لم يكُن عميدا لأسرته (المشلية) تشغله هُمُومهم، فحسب، بل كان شديد الانشغال بأحوال الناس ممن ترابط معهم و هم يبحثون عن مواقع لهم في سُوق العمل، أو فرص لتأهيلٍ نظامي، أو عن إكفاء احتياجٍ ضاغط. و لقد كان مُرتضى، بعقله المفتوح و انفتاحه الذي لم تحدّه حُدُود، موفور العلاقات عبر الحدود في أقاليم العالم المختلفة مع مثقّفين و رجال دولة و قادة مُجتمع من الوزن الثقيل.
سبقت مُرتضى إلى الرحاب الفسيح زوجته الفاضلة مُنى كريمة آل أبو العلاء، فيما ترك ذريةً صالحة، كريمته هانم و إبنه طارق، ممّن أثقُ فيهما أنّهما لن يبخلا عليه بصالح الدُعاء.
“تقبّل الله عبده محمد المرتضى مُصطفى في السابقين الصالحين المقرّبين. اللهم إنّه عبدُك، و ابنُ عبدِك، و ابنُ أمتِك، ناصيتُه بيدِك، ماضٍ فيه حُكمُك، عدلٌ فيه قضاؤك.
اللهم إن كان مُحسِنا فزِد في إحسانه، و إنْ كان مُسيئا فتجاوز عن سيئاته. اللهم باعد بينه و بين خطاياه كما باعدت بين المشرق و المغرب. اللهم نقّه من خطاياه كما يُنقّى الثوبُ الأبيضُ من الدَنس. اللهم اغسله من خطاياه بالماء و الثلجِ و البَرَد. اللهم لا تحرمنا أجره، و لا تفتنّا بعده. آمين . . .
أحسن الله عزاء الأسرة الكريمة و عزاء الجميع” . .