محمد محمد خير.. صوتُ لحظتنا
محمود أحمد عبد السلام
بيد أن للحربٍ أوجها وزوايا عديدة؛ فبخلافِ الزوايا القادمة من ميدان المعركةِ حاملةً بشارات النصر أو مرارات الهزائهم، وأصوات المارشات والجلالات العسكرية التي تملأ الفضاء، والفرمانات والبيانات التي تصدرُ بشكلٍ متواصل عن قيادة المعركة… إلخ
يبقى أن هناك ثمة صوت يعزف لحن روح الدولة وضمير الأمة، مع موسيقى الحداد وطقس الفجيعة مع نفحاتٍ ببشرياتِ نصرٍ قادم.
والصوتُ يصيغُ الوجدان ويخلِّدُ اللحظة..
فكما ألِفت آذاننا منذ الصغر صوت المُقرئ صديق أحمد حمدون وهو يرتلُ القرآن في خشوع، وصوت الجزلي الندي الآسر وهو يقرأ مقدمة شعرية مفتتحًا بها برنامجه التوثيقي: “على امتدادِ التاريخِ الانساني تلمعُ أنوار تأبى أن تخبو..”.
وكما ألِفت آذان الملايين من أبناءِ السودان تحيِّة الإذاعة لهم عبر الأثير -هنا أمدرمان-؛ والتحيِّةُ المُهيبة لا يزالُ صداها يترددُ جيلًا بعد جيل منذ الأستاذ عبيد عبد النور إلى آخر مذيعٍ أرسلها بعد غياب من خارج الخرطوم. تأكيدًا قدريًّا على أن أمدرمان لا تعرفُ الأُفول، ورسالة من السامعين أن آذاننا لا تُحبُّ الآفِلِينَ.
لم ينسى آباءنا من جيلِ النكسة صوت جمال عبد الناصر وهو يتلو خطاب التنحي على الأمة العربية. وكأن الأرض أهتزت تحت أقدامهم حين سمعوا ناصر يقول:
“لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًّا عن أي منصبٍ رسمي وأي دورٍ سياسي. وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أُؤدي واجبي معها كأي مواطنٍ آخر”.
مَن منكم لم تُؤنسه الخامة الصوتية العتيقة التي تربّت عليها مسامعنا ونحنُ نسمع أديبنا الطيب صالح في حوار تلفزيوني، أو العلامة عبد الله الطيب وهو يُبحِرُ بنا عبر برنامج “سير وأخبار” في علوم اللغة، والفقه، وتفسير القرآن، وأحوال العرب..
على أيِّة حال..
فاليوم أهم صوتٍ بالنسبة لنا هو صوتُ محمد محمد خير. وأظن أنَّ خير الذي يكتبُ كما اعتاد بحكمِ حرفته ومهنته اختار اليوم الحنجرةَ بديلًا عن القلمِ؛ ولا أعتقدُ أن هذه محضُ مصادفة!
محمد محمد خير ليس فقط الصوت الذي صاغ وجدان مئات الآلاف ساعة الحرب اليوم. لترتبط بصمته الصوتية بتلك اللحظة من تاريخنا ارتباطًا أبديًّا. فخير يقاتلُ اليوم عبر صوته الأنيق الوسيم في غابةٍ أخرى ظلت مهملةً معتمة. وقتالهُ هناك لا يقلُ شأننا عن القتال على المياديين.
سمعته مرةً وهو يقول -في إحدى تسجيلاته- أنه جزار! وايقنتُ حينها أن الحرفة تجري في دمائه؛ كيف يقتنص فريسته، وكيف يسن سكينه في ثقةٍ وطمأنينة، وكيف يهوي بالبهيمة أرضًا ايذانًا بتمرير المُدْية الحادّة على عنقها. خير فعل ذلك كلهُ وأكثر عبرَ تسجيلاته التي أتابعها بحرصٍ بالغ؛ رأيتُ خير يُجيدُ السلخ ونزع الجلد عن بهائمهِ المذْبوحة؛ أولئك الحفنة من الخونة والسفلة من العاطلين عن العملِ الذين يعملُ على تعريتهم على طريقته الخاصة. رأيتُ مهارته وهو يستخدمُ المُدْية برهةً ثم يضعها جانبًا، ليحمل الفرار ويضرب بقوةٍ أماكن العظم الغليظ ويضع الفرار ويسن مُدْيته من جديد وهو يُشرِّح اللحم؛ يفصله بمهارةٍ واقتدار عن الشحم بعملية دقيقة تطلَّبُ قدرًا من الفنِ والبَراعة. ومن ثم يُزيل العرق عن هامته ويأخذُ رشفة من كوب قهوةٍ -أو عرق إن شئت- ويسحب أنفاس متواصلة من سجارة لوثها الدم. يأخذ نصيبًا يسيرًا منها ويدوس على اللفافة بمركوبه، ويواصل الشرب مما تبقى من كوب قهوته.. ولسانُ الحال “الموضوع انتهى”!
خير يرسم عبر صوتهِ شئ من ملامح الوطنية الحقَّة. فهو بحكم تجربته يظلُ من العالمين القلائل بمخيالِ المُعارض السياسي السوداني. ودورة حياته البائسة؛ التي تبدأُ من صرخة الميلاد في شارعِ المين وتنتهي بالضياعِ في المنافي والشتات.. ومأساة تورطه في منتصف الطريق في أنشطة العمالة والتخابر والتكسبُ من المال السياسي.
خير اليوم يمضي عبر صوتهِ إلى ما هو أبعد من فضح الغباء، والعته، والعمالة، والجهالة؛ محمد محمد خير يضربُ بقسوة من يكرهون السودان، ويضمرون للسودانيين الشر كأنما لهم ثأر مريض بلا أسبابٍ ومبررات.
محمد خير عاقدٌ العزمَ على أن يردَ للشعب السوداني اعتباره بعد أن أحتقره القوادين ومن أسماهم النواب ب”زناة الليل”. ومظفر كعادتهِ يُواجه الخونة بمرارة:
“لست خجولًا حين أُصارحكم بحقيقتكم
أن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم”
بالتأكيد طبعا لا ننسى أن أ. محمد محمد خير خُدع بحصان طروادة -كغيره- وهو موقف يتطلبُ منه المراجعة يوم قال عن حمدوك: “دون أن يبذل جهدًا في تسويق نفسه ودون اللجوء (لأناه) حصد حمدوك محبة شعب كامل”!
على أيّة حال تمنياتي بدوامِ الصحة والعافية للأستاذ محمد محمد خير. وأن يظلنا بسماحة صوته. وأن يسعى مشكورًا للتوثيق لرحلة المعارضة السودانية في آخر أربعين عامًا على الأقل؛ وهو جهد ستستفيد منه أجيالنا الصغيرة والأجيال القادمة. على أن تُستأنف بعدها رحلة تفسيرية/ بحثية للشكل المُستجد من أشكال الاحتجاج والتنظيم السياسي. أو من جرت تسميتهم -اصطلاحًا- ب “المبشرين الجدد” أو “الإن جي اوزيون”.
محبتنا لك