محمد عبدالباريء..كيميائي الحروف

مالك محمد طه
(إياك أن تلحظ المعاني بعين الاسم فتعطب، وإياك أن تعطي الاسم ذات المعنى فتتعب)
قفزتْ بشهرة الشاعر السوداني محمد عبدالباريء -الباذخة أصلا – قصيدته النبوءة(ما لم تقله زرقاء اليمامة)، ووصْف القصيدة هنا بالنبوءة مقصود منه المعنى الوضعي لا الاصطلاحي (والنبوءة في اللغة الإخبار عن الشيء قبل حدوثه، او قبل وقته على سبيل التخمين) .
في القصيدة بلغت رؤية الشاعر ذروة لم تبلغها مراكز البحوث، ولم يدركها السياسيون والمشتغلون بالعلوم الاستراتيجية. اذ استشعر باكرا ان ما يسمى بثورات الربيع العربي ستؤول محصلتها الى صفر.
عبدالباريء يُرجع السر في توقعه ذاك الى ما اسماه(قوة الحدس)، ويرى ان الشاعر وهو يقرأ الاحداث ينبغي ان تكون له قوة ليست لدى غيره من الناس، ولديه تعريف لهذا الحدس، وهو انه نتيجة نهائية واستدلال مطوي، دون الانطلاق من مقدمات متفق او مختلف عليها، فالشاعر هو ما كان له شعور ومعرفة بالغوامض.
لا اريد ان احبس عبدالباريء في هذه القصيدة، فهي ليست يتيمة، وهو يرى ان نبوءته فيها اقرب الى البدهيات، كما انه رغم هالة القصيدة وقوة دفعها، الا ان عبدالباريء استطاع الانفكاك من قيدها، مثلما انفك أيضا من اطاره المحلي السوداني، وقدّم نفسه بأشعاره وحضوره الادبي والثقافي شرقا وغربا وشمالا وجنوبا على انه (شاعر الوقت)في العالم العربي، وجسّر مسافة كان الناس يظنونها كبيرة بين جيله، وجيل العمالقة الذين سبقوه في المنطقة العربية كلها.
القصيدة عنده مسافرة وحاضرة، هي بنت الامس ووليدة اليوم، كسبت التاريخ ولم تخسر الحاضر، عاصرت آدم وادركت سفينة نوح، ودخلت بفطرتها الاولى بطن الفلسفة وخرجت منها سليمة على نحو لم يسطعه الامام الغزالي الكبير، وفي قول الامام ابن العربي المالكي ( شيخنا ابوحامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد الخروج منها فما قدر).
لم يحتج عبدالباريء الى رافعة إعلامية كبرى، ولم يتوسل بعاصمة ثقافية تنوه بشأنه،او ناقد يلفت اليه انظار الناس، وهذا على التحديد كان موطن تساؤل ربما يبدو منطقيا اذا نظر الناس الى حداثة سنه، وانتمائه محليا الى رقعة جغرافية منخفضة ثقافيا.
كلما استمعت الى عبدالباريء يتحدث احس ان كلماته اشعر من شعره، لهذا لم استغرب عندما اعلن ان رهانه على النص، وهذا يدل على ثقة بالنفس وليس زهدا في الشهرة التي يقول انه اكثر طمعا فيها ممن يلتمسها عبرالتعرض ببضاعة كاسدة الى الوسائط الإعلامية والامسيات الشعرية المصنوعة.
النص عند عبدالباريء هو الذي يحمل نفسه، والقصيدة هي التي تشير الى صاحبها، وفي هذا يستوي ابوالعلاء المعري الذي ألزم نفسه الحبس الاختياري ولزم داره، وابوالطيب المتنبي الذي شرّق وغرّب، فما زادت مصر والعراق في عبقرية أبو الطيب، ولا نقصت الشام من شاعرية ابوالعلاء(رهين المحبسين).
وهكذا فما منعت سودانية عبدالباريء من ان تحتل قصائده موقع الصدارة في العواصم كلها من المحيط الى الخليج، ولا احتاج الى منصات تقوية في الحواضر الثقافية العربية لتنوه بمكانته الأدبية وملكته الشعرية التي جعلته يُقدم ويُرشح لنيل الجوائز، ولا يتقدم لها بنفسه.
عبدالباريء ليس شاعرا فقط لكنه كيميائي حروف، وصيدلي كلمات، حديثه ممتع ومشوق فيه انسيابية ودفق معرفي لا يمنعه اكتناز بالعلوم المتداخلة، شاهدته عدة مرات وهو ضيف على قنوات مختلفة، وقد نصبت له فخاخ الأسئلة التي لامس بعضها سودانيته، وأخرى الجوائز الي ينالها على شاعريته، وثالثة حول حداثة سنه وصغر عمره، فكان يجيب عليها بنثر اقرب الى الشعر.
هذا الشاب السوداني يختزل كل المعارف التي حصل عليها بوعيه، والتي انقدحت في لا وعيه، بكلمة واحدة(المحبة).
المحبة هي التي جعلت الشاعر يعيش حياة جاحظية، خادن بها كتب التراث في اللغة والادب والفلسفة والمنطق والاجتماع والتاريخ والجغرافيا، فجاء شعره مزيجا عجيبا بين كل ذلك.
بلغة عرفانية يقول عبدالباريء ان القراءة كتكليف قد رفعت عنه، وصارت محبة لا تكليفا، فهي لذة اللذائذ، ويرى ان المكافأة التي حصل عليها حقا هي الشغف بالقراءة، اما الكتابة كمترتب على هذه القراءة فيجب النظر اليها كنتيجة يمكن ان تأتي وقد لا تأتي.
من فرط اتساع رؤيته يرى انه عندما يكتب القصيدة فإن هناك مستوى من اللاوعي يتدخل في القصيدة، هكذا يقول هو عن نفسه بل وعن الشعراء: انهم ربما يقولون شعرا يستعصي عليهم في بعض الأحيان ان يقدموا تفسيرا له، فجزء مما يكتبون يتأبى على الوعي المباشر ان يوضحه.
بهذا يتنازل عبدالباريء عن المعنى لصالح المتلقي الذي عليه هو ان يحدد المعنى الذي وجده من النص، يفعل ذلك مع تنبيه عرفاني لطيف(اياك ان تعطي الاسم المعنى ذاته فتتعب).



