محاولة اغتيال البرهان وحرب المسيرات

ركابي حسن يعقوب

محاولة اغتيال مكتملة الأركان ومع سبق الإصرار والترصد استهدفت صباح الأربعاء 31 يوليو رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان عقب حضوره الاحتفال بتخريج دفعات من طلاب الكلية الحربية السودانية، والكليتين البحرية والجوية الذي أقيم بمنطقة (جبيت) العسكرية الواقعة في ولاية البحر الأحمر بشرق السودان على بعد حوالي مائة كيلو متر جنوب غربي العاصمة الإدارية المؤقتة (بورتسودان)، لكن المحاولة باءت بالفشل.
وبحسب تعميم صحفي صادر من الجيش السوداني، فإن المضادات الأرضية للجيش تصدّت لمسيرتين (معاديتين) استهدفتا موقع الاحتفال، مشيرًا إلى أن الحادث تسبب في استشهاد خمسة ووقوع إصابات طفيفة.
هذه الحادثة تعتبر المحاولة الثانية لاغتيال رئيس مجلس السيادة البرهان منذ اندلاع الحرب في السودان، حيث وقعت المحاولة الأولى غداة مهاجمة قوات الدعم السريع بالأسلحة الثقيلة مقرَّ إقامة البرهان بالقيادة العامة للقوات المسلحة السودانية صبيحة 15 أبريل 2023 بغرض اغتياله والاستيلاء على السلطة لكنه نجا بأعجوبة رغم كثافة النيران، ومقتل كل أفراد طاقم حراسته الخاصة.
وحادثة (جبيت) تعتبر الأولى بعد تمكن البرهان في أغسطس من العام الماضي من الخروج من القيادة العامة للجيش السوداني بالعاصمة الخرطوم، حيث ظل محاصرًا فيها من قبل قوات الدعم السريع لمدة 4 أشهر، وظل البرهان منذ خروجه يتجول في المدن والولايات السودانية، ويتفقد مواقع الجيش المختلفة ويزور الجرحى والمصابين وأسر الشهداء، ويظهر في الأسواق ووسط الجماهير بصورة عفوية ولم تسجل أية محاولات لاغتياله، كما قام بعدة زيارات ورحلات خارجية، وهو يدير شؤون البلاد من بورتسودان بالعاصمة الإدارية المؤقتة للبلاد.
وتعتبر حادثة (جبيت) تطورًا لافتًا في مسار الحرب في السودان، كونه يأخذ منحى تصعيديًا لا يمكن لمراقب المرور عليه مرور الكرام، وذلك من حيث الزمان والمكان.
فمن حيث الزمان، تأتي الحادثة بعد يوم واحد من إعلان وزارة الخارجية السودانية عن أنها ردت بالرفض على طلب تقدمت به إليها نظيرتها الأميركية لزيارة بورتسودان في السابع من أغسطس الجاري لإجراء محادثات مع الجانب السوداني بخصوص مقترح أميركي بإجراء مفاوضات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة السويسرية جنيف تحت رعاية أميركية.
وبحسب الخارجية السودانية فإن الجانب الأميركي طلب أن يأتي الوفد الأميركي إلى السودان بوحدة حماية أميركية كاملة للوفد، وأن تجرى المحادثات في مطار بورتسودان وليس في مقر الحكومة السودانية داخل مدينة بورتسودان، متعللين بأن الحالة الأمنية بالسودان مضطربة، وقالت الخارجية السودانية إنها أبلغت الخارجية الأميركية بأنها ترحب بالزيارة، لكنها ترفض الطلب الأميركي القاضي باصطحاب وحدة حماية أميركية وإجراء المحادثات بمطار بورتسودان.
هذه الواقعة لا يمكن عزلها عما حدث في (جبيت)، إذ إن محاولة الاغتيال صباح أمس تحمل في طياتها تلميحات ربما تهدف بشكل عملي إلى تأكيد (المخاوف الأميركية) بسيولة الحالة الأمنية بالسودان وتبرير طلبها آنف الذكر، وبالتالي الضغط على الجانب السوداني لقبول الشروط الأميركية لإتمام زيارة وفدها إلى السودان، وبطبيعة الحال لا يمكن الجزم بأن الحادثة تمت بإيعاز أو تعمد من أميركا، ولكن يمكن ترجيح أن المحاولة تمت بتدبير من قبل الدعم السريع -التي أبدت موافقة فورية على
المقترح الأميركي بالدخول في مفاوضات مع الجيش في جنيف- وذلك من أجل تعزيز الطلب الأميركي وتوفير مبرر للمخاوف التي أبدتها الخارجية الأميركية، لنيل موافقة الجيش السوداني للذهاب إلى مفاوضات جنيف التي تعول عليها الدعم السريع كمخرج آمن بالنظر إلى سوء الوضع العملياتي العسكري لها وانكسار القوة الصلبة لها وتقدم الجيش عليها ميدانيًا.
كذلك تأتي محاولة اغتيال البرهان في بعدها الزماني متزامنة مع اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران، وهو بعد له أثره ولا يمكن إغفاله؛ إذ إن الأيام الماضية شهدت تقاربًا واضحًا بين السودان وإيران، ولما كانت عملية اغتيال هنية تمت في إيران وأثناء زيارة رسمية له لشهود حفل تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب خلفًا للرئيس رئيسي الذي قضى بحادثة تحطم طائرته، فإن أصابع الاتهام الإيرانية لن تغفل الإشارة إلى إسرائيل في ظل حالة العداء الشديد بين تل أبيب وطهران.
وقطعًا لن تصمت ولن تدع هذه الحادثة تمر دون رد فعل ضد تل أبيب بالطريقة التي تراها طهران، وفي ظلّ حالة التقارب الإيجابي بين السودان وإيران، فإنه من الراجح أن يستفيد السودان من هذا التقارب على الأرض.
هذا من ناحية “الزمان”، ومن ناحية “المكان” فإن محاولة الاغتيال وقعت في منطقة (جبيت) وفي عمق المنطقة الآمنة، وفي موضع البؤرة منها، فضلًا عن كونها موقعًا عسكريًا حصينًا بصورة طبيعية إذ تحيط بها الجبال بشكل دائري، وتضرب حولها حراسة أمنية مشددة، وتبعد عن مناطق العمليات الحربية الدائرة حاليًا بقرابة 1500 كيلو متر، وهذا البعد المكاني يعتبر مؤشرًا لنقلة تصعيدية غاية في الخطورة للحرب في السودان.
وقد بدأت ظاهرة حرب المسيّرات خارج مناطق العمليات في الحرب السودانية منذ أبريل الماضي، حيث قصفت طائرة مسيرة حفل إفطار جماعي في رمضان بمدينة عطبرة بولاية نهر النيل شمالي السودان نظمته كتيبة البراء بن مالك التي تضم شبابًا متطوعين يقاتلون تحت إمرة الجيش السوداني، وأسفر القصف عن مقتل 6 أشخاص وإصابة 18 آخرين.
وبعدها وقعت حوادث إطلاق مسيرات في عدد من المواقع في نفس المدينة وفي مدن شندي والقضارف وفي الولاية الشمالية، وهي مناطق آمنة ليس فيها عمليات حربية، وقد تبنت قوات الدعم السريع واعترفت بإطلاق هذه المسيرات لتأكيد تواجدها وانتشارها الجغرافي.
ويبقى السؤال المهم والأكثر إلحاحًا، وهو: هل ستؤثر محاولة اغتيال البرهان في (جبيت) على موقف الحكومة السودانية والجيش من مفاوضات جنيف؟ وفي أي اتجاه؟
بمعنى أكثر وضوحًا هل ستستجيب الحكومة للطلب الأميركي للدخول في محادثات ثنائية سودانية أميركية للتمهيد لمفاوضات جنيف مع الدعم السريع على خلفية محاولة الاغتيال، وتكون واشنطن قد نجحت في الضغط على الحكومة السودانية، وبالتالي إضعاف موقفها على طاولة جنيف؟ أم ستسير الحكومة السودانية في الاتجاه المعاكس وتؤكد على موقفها الرافض للطلب الأميركي، وبالتالي رفض الذهاب إلى جنيف جملة وتفصيلًا وتغلق هذا الباب وتدير ظهرها لأميركا وتتجه نحو الحسم العسكري على الأرض مستفيدة من حالة التقارب مع إيران؟.

“الجزيرة نت”

Exit mobile version