مجزرة “ودالنورة”.. أسوأ وأبشع انتهاكات الدعم السريع
ركابي حسن يعقوب
مع أنفاس الصباح الأولى استيقظ أهالي قرية ود النورة، الأربعاء، الخامس من يونيو على وقع دوي سيارات الدفع الرباعي القتالية للدعم السريع، وهي تقتحم القرية الوادعة الهادئة الواقعة في ولاية الجزيرة بوسط السودان، وهي قرية يعيش أهلها المسالمون حياة ريفية بسيطة.
اقتحمت قوات ميليشيا الدعم السريع القرية الوادعة، وفتحت نيران أسلحتها الثقيلة على الأهالي بصورة عشوائية
ودون تمييز، فحصدت أرواح أكثر من 200 شخص، جلُّهم من النساء والأطفال وكبار السن الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
ورغم أن ميليشيا الدعم السريع قد ارتكبت سلسلة من المجازر المروعة في حق المدنيين، في العاصمة الخرطوم وولايات دارفور وكردفان والجزيرة، منذ هجومها على القيادة العامة للجيش السوداني بغرض الاستيلاء على السلطة في البلاد، في الخامس عشر من أبريل من العام الماضي.. فإن “مجزرة ود النورة” تعتبر الحلقة الأسوأ والأكثر بشاعة، ولا تضاهيها إلا مجزرة “الجنينة” بولاية غرب دارفور، التي وقعت بعد أسبوع واحد من اندلاع الحرب.
وتضاف “مجزرة ود النورة” إلى سلسلة المجازر التي ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع في ولاية الجزيرة منذ أن نقلت إليها عملياتها العسكرية في ديسمبر الماضي، حيث يقدر عدد الذين قضوا من المدنيين على أيدي ميليشيا الدعم السريع بهذه الولاية بأكثر من 4500 قتيل.
استهداف المدنيين هو سلوك مارسته ميليشيا الدعم السريع منذ اليوم الأول للحرب؛ فوفقاً للأمم المتحدة فقد خلفت هذه الحرب أكثر من 20 ألف قتيل مدني حتى الآن، في عمليات وقعت كلها في مناطق سيطرة ميليشيا الدعم السريع في العاصمة والولايات التي تدور فيها العمليات العسكرية، وفرار أكثر من ثمانية ملايين شخص من منازلهم، يشكلون نسبة 16% من إجمالي عدد السكان، وهي تمثل أكبر نسبة نزوح على مستوى العالم، ووجود أكثر من ثلاثة ملايين شخص بلا مأوى، وعبور أكثر من مليوني شخص الحدود إلى دول الجوار فراراً من بطش ميليشيا الدعم السريع وفظائعها. وتقول منظمة “أنقذوا الطفولة” إن حوالي 19 مليون طفل في السودان يواجهون خطر الحرمان من التعليم بسبب الحرب، حيث ظلت مليشيا الدعم السريع تستهدف الأعيان المدنية، ومنها مؤسسات التعليم، وتعمل على خطف الأطفال وتجنيدهم القسري في صفوفها.
المشاهد التي وثقتها كاميرات هواتف جنود ميليشيا الدعم السريع أنفسهم في قرية ود النورة مشاهد مروعة وشديدة البشاعة؛ وتشير صور إصابات القتلى المدنيين إلى أنهم قتلوا بأسلحة مضادة للدروع والتحصينات، لكن ميليشيا الدعم السريع استخدمتها ضد الأفراد المدنيين العزل، وهو ما يؤكد تعمد قوات ميليشيا الدعم السريع ونيتها المسبقة والمبيتة للفتك بالمدنيين؛ فالقرية لا توجد فيها أية وحدات عسكرية يمكن أن تكون هدفاً لها، والمقاومة التي وجدتها ميليشيا الدعم السريع من بعض الأهالي في القرية كانت لا تتناسب لا كماً ولا نوعاً مع قوة الميليشيا، ولم تخرج محاولات هذه المقاومة عن نطاق الدفاع عن النفس والمال والعرض، حيث عمدت ميليشيا الدعم السريع -كعادتها- إلى عمليات السلب والنهب والاختطاف والتعرض للنساء.
“مجزرة ود النورة” المروعة حركت الضمير الجمعي لكل قطاعات المجتمع السوداني بفئاته ومكوناته المختلفة؛ فكانت ردود الفعل على المجزرة تلقائية، فتواترت بيانات الإدانة والشجب والاستنكار من كل هذه الفئات والمكونات المجتمعية والسياسية شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً ووسطاً، إلا من كيان ما يسمى بـ”تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية” المعروفة اختصاراً بـ (تقدم)، والتي يرأسها رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، الذي استقال من منصبه طوعاً مطلع العام 2022، وهو كيان يمثل الحاضنة السياسية والذراع السياسي لميليشيا الدعم السريع.
فقد أطبق الصمت (الداوي) على هذا الكيان، ولم ينبس ببنت شفة فيها إشارة إدانة لـ”مجزرة ود النورة”، وهو سلوك انتهجه هذا الكيان حيال انتهاكات ميليشيا الدعم السريع، التي ارتكبتها في حق المدنيين طوال شهور الحرب، وهو ما يؤكد يقيناً أن كيان (تقدم) يوافق على هذه المجزرة و يباركها، وأنها جزء من نهج الحلف الذي يجمعه مع الميليشيا الإرهابية، وهذا الموقف (الجديد القديم) لـ (تقدم) يعكس وحدة الهدف والسلوك لكلا الجانبين، وهو ما يثير الدهشة والحيرة والاستغراب لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ويثير أسئلة جوهرية حائرة لا تجد إجابات منطقية.
فكيف لهذا الكيان الذي يدعي سعيه من أجل جلب الديمقراطية والحكم المدني للبلاد أن يضع يده في يد ميليشيا الدعم السريع مع كل ما يلتصق بها من همجية وبربرية، وما أحدثته من دمار وخراب طال كل شيء من البنيات والمقدرات والمؤسسات والأعيان والمرافق التي هي ملك للشعب السوداني؟! وكيف لهذا الكيان أن يؤمن بأن هذا النهج الهمجي يمكن في المحصلة النهائية أن ينتج عنه حكم مدني ديمقراطي يحترم ويصون حقوق الإنسان، ويضمن تداولاً سلمياً للسلطة؟ كيف لمن يرتكب جرائم ضد الإنسانية في حق مواطنيه، وينهب ممتلكاتهم وينتهك أعراضهم، ويشيع الخوف فيهم، أن يكون ديمقراطياً يصون حقوقهم؟! وكيف يتوقع قادة كيان (تقدم) أن يغفر لهم الشعب السوداني مساعدتهم ووقوفهم في صف جلاديهم ومنتهكي حقوقهم، ويفسح لهم المجال بعد كل هذا الخراب الذي رضوا به أن يكونوا رأس الرمح فيه، ليعودوا إلى البلاد وإلى دفة السلطة والحكم فيها؟ كيف يفكر هؤلاء وأي عقل هذا الذي يزين لهم هذه الأوهام؟.
أَبَلغ بهم الغباء هذا الحد من عمى البصر والبصيرة، أم إن الأمر لا يعدو كونه مجرد عمالة للخارج مدفوعة الأجر، للقوى الأجنبية التي تقف مساندة لميليشيا الدعم السريع، وتسعى إلى فرض مشروعها التدميري في السودان، الوطن والتاريخ والثقافة والدين؟ هل باع قادة (تقدم) ضمائرهم وانتماءهم لتراب وطنهم، الذي قدم لهم الكثير فقابلوه بعقوق لا يليق به، ولا يصدر عن حر وشريف ووطني؟ هل تباع الضمائر والأوطان بهذه الأثمان البخسة؟
“مجزرة ود النورة” بكل بشاعتها، وبالجرح الغائر الذي خلفته في الضمير الوطني السوداني، والذي نحت في ذاكرته، وسجل في صحيفة تاريخ هذا البلد العظيم، ستظل علامة فارقة في مسيرة العمل الوطني؛ حيث تبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض من الانتماء الحقيقي لتراب هذا البلد، ومفترق طرق بين الحق والباطل، وبين الوطنيين والخائنين.. مجزرة ود النورة ستكون قوة دفع كبرى نحو تحرير البلاد من دنس تحالف الميليشيا وكيان (تقدم)، ومنصة انطلاق أكثر قوة وثباتاً ورسوخاً للقوى الوطنية والشعب السوداني، للقضاء المبرم على هذا التحالف، وتخليص البلاد من شروره وآثامه.
“الجزيرة نت”