تقارير

مجزرة صالحة: شهادة دامغة على أن المدنيين هم الوقود الحقيقي لحرب السودان

في بلد تمزقه الحرب منذ أبريل 2023، لم تعد مشاهد الدم والدمار مفاجئة. لكن ما حدث في حي صالحة جنوبي العاصمة الخرطوم أواخر ذلك الشهر، تجاوز حدود الوحشية المعتادة، وتحول إلى رمز فجّ لمدى استهتار الأطراف المتحاربة بحياة المدنيين.

مجزرة قافلة صالحة، التي راح ضحيتها عشرات المدنيين من نساء وأطفال ورجال، ليست مجرد حادثة عابرة، بل فصل دامٍ في سردية حرب لم تترك حجرًا ولا بشرًا إلا وأصابته بالتشظي.

بداية المأساة: “لقد قتلنا شعبكم”

في أحد أيام أبريل الدامية، تحركت قافلة مكونة من 67 مدنيًا أغلبهم من عائلة واحدة، كانوا يسعون لمغادرة الخرطوم المحاصَرة عبر حي صالحة. لكن عند نقطة تفتيش تابعة لقوات الدعم السريع، تم توقيفهم. روى الناجي سراج علي تفاصيل اللحظة المفصلية:

“أمرونا بالنزول. أطلقوا النار على أخي أمام عينيّ. ثم بدأ إطلاق نار عشوائي من الخلف… رأيت أقاربي يتساقطون واحدًا تلو الآخر. بعدها عاد الحراس إلى الداخل وقالوا: ‘لقد قتلنا شعبكم.’”

فقد سراج 16 فردًا من عائلته، بينهم شقيقتان ضُربتا حتى الموت، وشقيقة ثالثة اختفت بعد أن اقتادها الجنود إلى جهة مجهولة. لم يتمكن من دفنهم جميعًا، فالجثث كانت متناثرة ومحترقة.

“كانت قافلة مدنية، لكنها انتهت كقافلة من الجثث”، قال سراج بينما كان يجمع بقايا ذويه من على قارعة الطريق لدفنهم في مقبرة جماعية.

انتهاكات ممنهجة وصادمة

لم تكن المجزرة لحظة انفلات أو قرارًا فرديًا. بل يبدو أنها كانت مدروسة ومتعمدة. الشهادات تشير إلى تعذيب للرجال، تهكم على النساء، واستخدام الحبوب المخدرة مع المحتجزين. إحدى الأمهات روت أن طفلها البالغ 8 سنوات نجا بعد أن هرب عبر ثقب في الحائط، وكان قد شاهد جده يُقتل أمامه بدم بارد.

قالت:

“أرادوا أن يشاهد الأطفال مشاهد الرعب عن قرب. قال لي أحدهم: نحن فقط نمرح، نريد أن نرى كيف تبكون.”

أجبر الضحايا على الركوع، وُضعوا في صفوف، ثم أُطلق عليهم الرصاص. الجثث تُركت في الشوارع، وغطتها الدماء والغبار. العديد منهم ظلوا يحملون هواتفهم في أيديهم، وكأنهم كانوا يحاولون طلب النجدة أو توثيق لحظاتهم الأخيرة.

البؤس المتفاقم: الجوع والموت البطيء

المجزرة لم تكن سوى نقطة في بحر المعاناة الممتدة. سكان صالحة، مثل غيرهم في الخرطوم وأم درمان، يواجهون اليوم انهيارًا كليًا في النظام الصحي والخدمات الأساسية. لا طعام، لا دواء، لا كهرباء. الكوليرا تنتشر. الملاريا تحصد الأرواح. الناس يأكلون أوراق الأشجار. بعضهم يلجأ للفحم لتسكين الجوع.

أحد سائقي التاكسي قال:

“نقلنا المرضى في عربات مهترئة. لا توجد إسعافات. نقطع الكهرباء لنتقاسم الوقود بين الأحياء. هذا ليس عيشًا… إنه انقراض بطيء.

الدعم السريع: نفي في العلن واعتراف في الظل

بعد انتشار أنباء المجزرة، سارع متحدثو الدعم السريع لنفي التورط، زاعمين أن من ارتكب الجريمة “ذئاب منفردة” لا تمثل القيادة. لكن مقاطع فيديو مسرّبة أظهرت امرأة بزي عسكري تقول صراحة:

“أنا من الدعم السريع… قتلناهم ودفنّاهم.”

وفي مقطع آخر، ظهرت مجموعة من النساء يضحكن بجوار جثث مشوّهة، يسخرن من الضحايا ويبررن المجزرة بـ”الردع”.

قالت إحدى الناجيات:

“هؤلاء لا يخجلون. لا يخفون جريمتهم، بل يتفاخرون بها. أي نظام هذا الذي يسمح لهم بالإفلات؟”

مجزرة بلا عقاب… وصمت دولي

رغم توثيق الشهادات، ووجود صور ومقاطع فيديو، لم يُفتح أي تحقيق رسمي حتى الآن. لا محكمة، لا لجنة تحقيق، لا مساءلة. المجتمع الدولي يكتفي بـ”القلق” و”الدعوة لضبط النفس”، بينما تواصل الميليشيات حصد أرواح المدنيين.

يقول سراج:

“ما زلت أحلم بأصوات الرصاص. ليست لدينا قوة. لدينا فقط هذه الشهادات. إذا صمت العالم، فسيتكرر ما حدث لنا غدًا في مكان آخر.”

ختامًا: هل من أمل؟

في ظل تفاقم الوضع الإنساني، وتواصل الانتهاكات، يبدو أن الطريق إلى العدالة في السودان لا يزال طويلًا. ومع غياب إرادة سياسية حقيقية، يبقى الأمل معقودًا على صوت الناجين، وعلى صحوة ضمير عالمية قد تدفع يومًا نحو محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى