د.أمين حسن عمر
نفى مجلس السيادة أية مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة بين الحكومة وبين المليشيا في واشنطون ونحن نصدقه فلربما تكتفي أمريكا في الوقت الراهن بالتحدث مع كل طرف على حدا، لتقوم من بعد ذلك ببلورة حلول قد يتصادف أن تلقى قبول الطرفين وهذا إحتمال ليس بالمستبعد ولا يناقض النفي الرسمي لقبول تفاوض غير مباشر.
لكن المشكلة ليست في التفاوض مع المليشيا لأنني أشك ان يقدم أي طرف حكومي على إستثارة غضب الجيش والشعب بمثل هذه الخطوة الرعناء و أنا شخصيا قد قبلت وأقتنعت بالتأكيدات من طرف رئيس مجلس السيادة ألا قبول بوجود مستقبلي للمليشيا في الحياة السياسية أو العسكرية في السودان.
بيد أن المشكلة إن عدنا بالمشكلة لأصولها فهي لم تنشأ من تمرد المليشيا على الدولة باديء الرأي ، بل بدأت بعمل مخطط ومدروس من جهات دولية وإقليمية معلومة لهندسة الحياة السياسية والإقتصادية بل والثقافية للسودان بما يلائم تلك الجهات ويحقق ما تراه مصالحا لها في بلادنا دونما إعتبار بما يصلح البلاد و أهلها ومايضرها.
والولايات المتحدة الأمريكية على رأس تلك الجهات وسرديتها لما جرى قبل الحرب وبعدها لم تتغير قط فهي لا تعترف في السودان بسلطة شرعية عسكرية أو مدنية ما لم تكن تلك السلطة قد أجابت مسبقا بالإيجاب على ما تراه أمريكا وأحلافها
الصواب السياسي للسودان ، فأمريكا لا يعنيها أن يحكم السودان عسكريون مدنيون أو ملوك أو أمراء وإنما الذي يعنيها ما تعتني به من مقاصد ومصالح في بلادنا، وأول هذه المقاصد ألا يعود السودان دولة مارقة على الإرادة الأمريكية وهذا لا يعني سوى التطبيع الكامل مع الكيان والتتبيع الكامل للبلاد ومنح كلما يريده السيد ترمب من تلك الحفرة الصغيرة المسماة السودان التي تقع في حفرة القذارة الكبرى المسماة أفريقيا.
والسيد ترامب لايريد السودان مواليا بل يريده خاضعا خانعا ،وهذا يعني أنه لن يقبل بتعدد الولاءات بمعنى ألا يتجه السودان للصين ولا روسيا ولا أية دولة أخرى لتلبية إحتياجاته العسكرية أو تحقيق مصالحه الإقتصادية حتى إن كانت أمريكا غير مستعدة لتلبيتها، فإبعاد الصين وروسيا عن السودان وعن أفريقيا هدف معلن معلوم، ثم أنه مطلوب من السودان أن يكون جزءا لا يتجزأ من ترتيبات في البحر الأحمر تراها أمريكا ضرورية لأمن الكيان،ثم يراد طرد الشراكات السودانية مع الصين وروسيا وتركيا من قطاع المعادن والعناصر النادرة في السودان وإحتكارذلك القطاع المهم لأمريكا وشركائها الإقليميين
والسؤال الأهم هو هل أمريكا مؤهلة لصنع السلام في السودان؟
من المعلوم أن حل مشكلة ما هو فرع من تعريفها فاذا كان تعريف المشكلة صحيحا، فإن حلها وإن إستعسر فهو في قيد الإمكان….لكن هل تعريف أمريكا لأزمة الحرب في السودان تعريف صحيح؟يعرف حتى العامي غير المتعلم في السودان خطل التعريف الأمريكي لأزمة السودان فهي تراها حرب أهلية وصراع على السلطة فهي
ازمة تنازع على السلطة بين فريقين عسكريين وجنرالين متطلعين للحكم
وهي ترى كلا الفريقين متساويين في الإعتبار ولا فرق لديها بين مليشيا تصفها هي نفسها بمجرم حرب وبين مؤسسة الجيش الوطنية التي يمتد عمرها لقرن من الزمان وتاريخها حافل بالإنجازات داخل البلاد وخارجها.
وأمريكا لا تعترف بسلطة الجيش في الحكم وتريد إبداله بمجموعة مختارة لم ينتخبها أحد وهي فاشلة وفاسدة، بشهادة كل حكم عدل داخل البلاد وخارجها، ولكن أمريكا لا يهمها ذلك طالما أن تلك المجموعة قد أجابت بالإجابات الصائبة سياسيا بالمعيار الأمريكي، فالصواب السياسي هو ما يعني
أمريكا وليس الحكم الراشد لبلد زاخر بالإمكانات
مثل السودان
وامريكا تنصب من نفسها وسيطا وتختار لها في وساطتتها شركاء ، ولا تهتم بشكاوى السودان من بعضهم، وبما بات معلوما للكافة أن بعضهم ليسوا وسطاء بل هم للمليشيا شركاء ، ثم هي تريد لحكومة السودان التي لا تعترف بها أن تفرض على الجيش والشعب ما تراه تلكم الوساطة الحل الناجح والناجع للمشكلة في السودان ثم مطلوب منها بعد ذلك أن تتنحى وتنصب للحكم من تريدهم أمريكا وشركاؤها .
وهي بذلك لا تهتم بمعاناة شعب السودان ولا بمطالبه ولا مقاصده ولا تفكر في تعويض خسائر دولته وإنسانه التي إجترحتها المليشيا ورعاتها، بل ان أمريكا لم تبذل أيما جهد لبناء الثقة في وساطتها فهي أعادت السودان لقائمة الدول المعاقبة، وعاقبت رئيس البلاد وعددا من الوطنيين الشرفاء لا لسبب إلا أنهم نهضوا يدافعون عن بلدهم وكرامته وسيادته الوطنية.
لهذا كله سؤالي هو لماذا يشد السيد السفير وزير الخارجية رحاله إلى واشنطون؟ هل يظن أن التباحث مع واشنطون سوف يغير السردية هنالك أم هي مناورة أخرى غير محسوبة ولا مدروسة العواقب..فمن ظن أن التباحث مع أمريكا سينتج عنه تغيير في الإستراتيجية الأمريكية تجاه السودان التي هي جزء من استراتيجية شاملة للمنطقة، فهو يحدث نفسه بما تتمنى، وكثير من الأماني مضيعة للوقت والمال لا أكثر ولا أقل.

