ما الذي تريده قوات الدعم السريع من ولاية الجزيرة؟ أجندة الاقتصاد السياسي للحرب في السودان
أمجد فريد الطيب
في صبيحة يوم الجمعة 21 يونيو 2024، اجتاحت مليشيا قوات الدعم السريع قرية عسير، وهي بلدة زراعية صغيرة في ريف منطقة الحوش الواقعة في ولاية الجزيرة. أسفر هجوم الدعم السريع عن مقتل 17 من المدنيين وإصابة عشرات آخرين، بالإضافة إلى موجة نزوح واسعة للمواطنين المدنيين، باتجاه المناقل والمناطق الأخرى البعيدة عن سيطرة المليشيا، بينما انصرف جنود المليشيا إلى أعمال ترويعهم المعهودة من النهب والسلب والاعتداءات المختلفة في كل منطقة يجتاحونها.
قبل ذلك بيومين، قامت المليشيا باستباحة مدينة الهدى في غرب ولاية الجزيرة، بعد استهدافها لقرابة النصف يوم بقصف مدفعي مكثف. وأسفر هذا الهجوم عن سقوط أكثر من 20 ضحية مدنية، بالإضافة إلى العديد من الجرحى، وتسبب في حركة نزوح كبيرة للمواطنين من المنطقة باتجاه قرية العزازي وعدد من القرى المجاورة، طلباً للسلامة. وصاحب هذا الهجوم أيضاً، عمليات نهب واسعة للمحاصيل الزراعية والمخزونات الغذائية الموجودة في المدينة.
وفي 5 يونيو 2024، شنت قوات الدعم السريع هجوماً عنيفاً ووحشياً على قرية ود النورة غربي منطقة المناقل في ولاية الجزيرة. هاجمت قوات الدعم السريع القرية مرتين على مدار اليوم، بدأتهما بقصف مكثف باستخدام المدفعية الثقيلة، تلاه هجوم بري واسع النطاق على القرية من ثلاث اتجاهات. ارتكبت المليشيا خلال هذه الهجمات مجزرة دموية، بلغ عدد ضحاياها أكثر من 200 شخص فقدوا أرواحهم، فيما بلغ عدد المصابين المئات. وعادت قوات الدعم السريع لاقتحام القرية صباح يوم 6 يونيو 2024، وبسطت سيطرتها عليها ونشرت قواتها فيها.
وعلى مدار الأسبوعين الأخيرين من شهر مايو 2024، تعرضت بلدة التكينة بمحلية الكاملين، الواقعة في شمال ولاية الجزيرة، لهجمات متواصلة من مليشيا قوات الدعم السريع، تراوح عدد ضحاياها بين 10 إلى 18 قتيلًا من المدنيين يومياً. وبدأت تلك الأحداث عندما قامت مجموعة من رجال المليشيا، يوم الإثنين 20 مايو 2024، بالهجوم على البلدة الريفية بغرض النهب والسلب والتغَنُّم المعتاد. لكن الأهالي تصدّوا لها بالأسلحة النارية والعصي (العكاكيز) وأجبرُوها على التراجع. لترد المليشيا على ذلك باجتياح البلدة والهجوم الشامل عليها بالأسلحة النارية والمدافع الرشاشة والقصف المدفعي المكثف. سقط في اليوم الأول عشرة ضحايا، وعاودت المليشيا هجومها مرة أخرى في اليوم التالي، ممّا تسبّب في سقوط عدد آخر من الضحايا. وبدأت حركة إجلاء أهلية واسعة لأعداد كبيرة من النساء والأطفال وكبار السن من الجنسين عبر القوارب إلى مناطق آمنة في شرق ولاية الجزيرة، تحسّباً لاستمرار ذلك الهجوم. وبطبيعة الحال، انتظم أهالي المنطقة في مقاومة شرسة لهذه الاعتداءات، التي لم تنتهِ حتى الأول من يونيو 2024 باتفاق بين أهالي المنطقة وقائد مليشيا قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة (أبو عاقلة كيكل) على عدم التعرض للبلدة.
كما جاءت الأخبار في 23 يونيو 2024 عن تهديد مليشيا قوات الدعم السريع لسكان قرى العوامرة والكريبة ومساعد في غرب ولاية الجزيرة، ومطالبتها لهم بإخلاء مناطقهم فوراً، وسط مظاهر ترويع وعمليات نهب متعددة، ممّا أدّى إلى حركة نزوح واسعة للنساء والأطفال وكبار السن سيراً على الأقدام، اتقاءً لشر المليشيات التي اعتادت ممارسته في بقية الأماكن التي اجتاحتها.
لم تكن هذه الانتهاكات، التي تزايدت وتيرتها مؤخراً، هي الوحيدة منذ اجتياح مليشيات قوات الدعم السريع لولاية الجزيرة في ديسمبر الماضي. ففي 18 ديسمبر 2023، سقطت مدينة ود مدني، عاصمة الولاية، في يد مليشيات الدعم السريع، التي ارتكبت فيها العشرات من جرائم القتل والنهب والاغتصابات ضد سكانها المدنيين، وذلك بعد الانسحاب المخزي للفرقة الأولى مشاة من الجيش السوداني، التي كانت مكلفة بحماية المدينة. ولم تستثنِ جرائم مليشيات الدعم السريع حتى مخازن برنامج الغذاء العالمي، التي تم نهبها بواسطة رجال المليشيا، حتى بعد إبلاغ قيادة الدعم السريع بإحداثيات المستودعات وتلقي البرنامج تطمينات منها بعدم التعرض لمستودعات ومخزون الأغذية. وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى إيقاف أعمال الإغاثة الإنسانية التي يقوم بها البرنامج وبقية منظمات الأمم المتحدة، حسب بيان مكتب تنسيق المساعدات الإنسانية الأممي.
وبحسب بيان برنامج الغذاء العالمي حول إيقاف عملياته، فإن هذا الغذاء المنهوب كان كافياً لإطعام ما يقرب من 1.5 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد في السودان لمدة شهر كامل. وأضاف بيان برنامج الأغذية العالمي أن مقاتلي قوات الدعم السريع في السودان نهبوا الحصص الخاصة برعاية نحو 20 ألف طفل ممن يعانون من سوء التغذية، والأمهات المرضعات. وشملت المواد المنهوبة البقوليات والذرة الرفيعة والزيوت النباتية والمكملات الغذائية، بحجم يقدر بأكثر من 2500 طن من المواد الغذائية المنقذة لحياة الكثيرين. وبطبيعة الحال، فإن عمليات نهب المساعدات الإنسانية وإيقاف عمل منظمات الإغاثة كانت شكلاً من أشكال حصار التجويع وخلق المجاعة، والتي تهدف بشكل مباشر إلى دفع المواطنين والسكان الأصليين للرحيل عن مناطقهم.
منذ ذلك الحين، استمرت إنتهاكات وتجريدات عنف مليشيا قوات الدعم السريع في ترويع الآمنين في قرى الجزيرة ومهاجمتهم وإجبارهم على الرحيل. تعرضت مناطق وقرى رفاعة، حنتوب، الحلاوين، الحوش، ود المنير، الكمر الجعليين، فداسي، المعيلق، العوايدة، فطيس، الحمداب، عباس، ود الأبيض، العزازي، البابنوسة، الحرقة، الطلحة، بانت، وغيرها من المناطق في حضر وأرياف ولاية الجزيرة لهجمات متكررة من قبل قوات الدعم السريع، التي ارتكبت فيها المليشيا فظائع مماثلة. توزعت هذه المناطق والقرى في كل ربوع وانحاء الجزيرة، من شمالها وشرقها حتى جنوبها وغربها، وهذه الأسماء ليست مجرد كلمات، بل هي أوطان ناس، بشر عاديون، لهم أحلامهم وآمالهم وأفراحهم وأحزانهم الصغيرة. هذه الأسماء هي أوطانهم الصغيرة وأماكن مساكنهم وأسواقهم ومزارعهم ومدارسهم ومستشفياتهم ومراكزهم الصحية. هي حواضن معاشهم الطبيعي وحياتهم اليومية التي كانت آمنة قبل أن تطالها يد المليشيا. وبرغم كل ذلك، سكتت الإدارة المدنية التي عينتها قوات الدعم السريع بحسب اتفاقها مع تحالف تقدم في اتفاق حمدوك-حميدتي الموقع في 2 يناير 2024 لإدارة شؤون ولاية الجزيرة عن محاولة إيقاف هذه التجاوزات أو حتى إدانتها.
مع تصاعد هجمات المليشيا في ولاية الجزيرة، يتضح جلياً أن ما تقوم به قوات الدعم السريع لا يندرج فقط تحت مسمى انفلات أمني أو مجرد عمليات سلب ونهب، والتغنيم الذي تُغرِي به الدعم السريع مجنديها للانضمام إلى صفوفها. بل يكشف ذلك عن وجود هدف مدروس ومنهجية مقصودة تهدف إلى تهجير المواطنين من أراضيهم الأصلية. فولاية الجزيرة ليست فقط ثاني أكبر مركز حضري في السودان بعد العاصمة الخرطوم، بل هي أيضاً موطن مشروع الجزيرة الزراعي، أكبر مشروع للري الانسيابي الطبيعي في العالم.
تتمتع ولاية الجزيرة، التي يقطعها نهر النيل الأزرق من المنتصف وتمتد حدودها شرقاً لتقترب من نهر النيل الأبيض في مسارهما الانسيابي قبل أن يلتقيا شمالاً في الخرطوم، بمزايا تجعلها مناسبة بشكل خاص للري والزراعة الطبيعية. فالطمي والتربة الخصبة التي تجرفها مياه نهر النيل الأزرق شديد الانحدار من الهضبة الإثيوبية تُزيد من خصوبة الأراضي وصلاحيتها للزراعة. كما أن الانحدار الطبيعي للأرض يجعل تدفق المياه عبر قنوات الري يتم بشكل طبيعي وبتكلفة قليلة جداً بالمقارنة مع باقي وسائل الري. ناهيك عن احتواء التربة على نسبة عالية من الطين، مما يقلل بشكل كبير من خسائر المياه الناتجة عن التسرب.
بدأ إنشاء مشروع الجزيرة عام 1911 خلال فترة الاستعمار بمساحة 250 فداناً. وتواصل تطور المشروع ونموه ليصل إلى حجمه الحالي المقدر بـ 2 مليون و200 ألف فدان من الأراضي الخصبة التي تتمتع بالري الطبيعي في عام 1962. تميز المشروع، الذي تم تأميمه وسودتنه عام 1950 – قبل استقلال السودان بست سنوات – والذي يضم حوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون مزارع مقيمين فيه، بنظام إدارة تشاركية بين المزارعين وإدارة المشروع وحكومة السودان. وهو ما منح المزارعين قدراً كبيراً من الاستقرار في المنطقة وشكل نموذجاً فريداً لملكية الأراضي ومشاركة فاعلة في إدارة شؤون المشروع والولاية ككل.
حتى ظهور وتصدير النفط في السودان، ظل مشروع الجزيرة الزراعي هو المورد الاقتصادي الأكبر لميزانية حكومة السودان السنوية. ولكن مع ظهور النفط، ومن ثم حمى الذهب، أصيب الاقتصاد السوداني بـ “المرض الهولندي” خلال عهد حكم نظام الإسلاميين المخلوع. مما أدى إلى تدهور الاهتمام بمشروع الجزيرة وإهمال الصيانات الدورية لترع الري، مما نتج عنه تدهور إنتاجية المشروع بشكل كبير وبالتالي تناقص مساهمته الاقتصادية.
لكن خلال فترة حكم الثورة (2019-2021) وبالتحديد خلال الموسم الزراعي لعام 2020، أثبت مشروع الجزيرة أنه لا يزال مورداَ اقتصادياً هاماً، حيث ساهم في إنتاج وتغطية حوالي 40٪ من احتياجات السودان السنوية من القمح في ذلك العام، بالإضافة إلى المنتجات الزراعية الأخرى من بقوليات وخضروات ومحاصيل نقدية كان ينتجها المشروع.
لا يمكن تفسير ما يحدث في ولاية الجزيرة من انتهاكات تتزايد بوتيرة هندسية متسارعة على أنه محض اعتباط. فحسب، والغافل فقط -والمتغافل بطبيعة الحال- هو من يجهل أو يتجاهل دور عامل الاقتصاد السياسي في حرب السودان الحالية. فقد كان التنازع حول المصالح الاقتصادية الذاتية أحد عوامل تزايد حدة الاستقطاب والمنافسة بين المكونات العسكرية التي تتحارب الآن فوق رؤوس السودانيين.
ومع انكشاف دور الدول الخارجية الداعمة لمليشيا قوات الدعم السريع، وبالأخص دولة الإمارات العربية المتحدة والتي تُشكل مسألة الأمن الغذائي والمياه أحد أكبر اهتماماتها ومشاغلها، ويتمتع فيها السودان بموارد كبيرة غير مستغلة، يصبح من الواضح أن الاستيلاء على مشروع الجزيرة والسيطرة عليه، لما يتميز به من خصوبة أراضيه وسهولة زراعته وانخفاض تكلفة تشغيله النسبية، يُعدّ مطمعًا كبيراً للإمارات في هذه الحرب. وتواجه الإمارات تحديات كبيرة في مجال الأمن الغذائي مع تقديرات مرتفعة لنمو استهلاك الغذاء فيها بمعدل سنوي يبلغ 3.5٪ بحسب تقديرات وزارة الاقتصاد الإماراتية. حيث إن حوالي 0.5٪ من أراضي الإمارات مناسبة للزراعة، بالإضافة إلى النقص الفادح في الموارد المائية، والاعتماد الكبير على تحلية المياه، وهي عملية عالية الاستهلاك للطاقة ويخصص غالبية المنتج منها للاستخدام البشري، وتستورد الإمارات نسبة تبلغ 90٪ من طعامها من الخارج وهو ما يجعله عرضة لتقلبات الأسعار ومشاكل سلسلة التوريد. ولكن بالرغم من هذه التحديات أعلنت الإمارات أنها تسعى لكي تتصدر المرتبة الأولى بمؤشر الأمن الغذائي العالمي بحلول العام 2051. وكانت الإمارات قد سعت مسبقاً للاستيلاء على إقليم الفشقة السوداني، والمعروف بخصوبة أراضيه بالقرب من الحدود مع أثيوبيا في مايو من العام 2021، وكان الإقليم واقعا تحت سيطرة مليشيات شبه حكومية أثيوبية، ولكن استغل الجيش السوداني ظروف الحرب في إقليم التغراي لطردها من الإقليم وتحريره. لم تكلل مساعي الإمارات حينها بالنجاح مما ساهم في دعمها لإنقلاب برهان – حميدتي على الحكم المدني في أكتوبر من نفس العام.
مناهج التهجير القسري للاستيلاء على أراضي المواطنين الأصليين -المزارعين بالتحديد- ليست بأمر جديد على الجنجويد، بل هي من تكتيكاتهم الراسخة والتي مارسوها منذ وقت مبكر في حربها الأولى في دارفور. وهو ما أدى إلى موجات نزوح ولجوء واسعة على مدى سنين حرب دارفور المستمرة.
وبرزت ظاهرة المستوطنين الجدد، الذين استقروا في المساكن الأصلية للمدنيين النازحين واحتلوها بشكل عقد محاولات النازحين إلى مواطنهم حتى في فترات هدوء النزاع. وصفت جورجيت غاغنون، نائبة مدير قسم إفريقيا بمنظمة هيومن رايتس ووتش في العام 2004 منهج مليشيات الجنجويد (التمظهر السابق لقوات الدعم السريع الحالية) بالقول “إن المليشيات لا تزهق أرواح الأفراد فحسب، بل تدمر سبل رزق عشرات الآلاف من العائلات؛ والمستهدفون من هذا هم المزارعون في المنطقة” وأشارت هيومان رايتس ووتش في نفس التقرير الصادر عن المنظمة بعنوان (السودان: فظائع واسعة النطاق في دارفور) في 2 أبريل 2004، إن القوات الحكومية التابعة لنظام الإسلاميين الحاكم يومها والمليشيات الجنجويدية المتحالفة معها تعتمد على “استراتيجية التهجير القسري” التي تتضمن “تدمير القرى بشكل ممنهج ” و”القتل والاغتصاب والسلب والنهب على أيدي المليشيات” و”حرق وتدمير المزارع والأراضي” وبالإضافة إلى ذلك أورد التقرير “قتلت القوات الحكومية والمليشيات الموالية لها بضعة آلاف من المدنيين من أبناء جماعات الفور، وزغاوة، والمساليت، ودرجت على اغتصاب النساء والفتيات، واختطاف الأطفال، ونهب عشرات الآلاف من رؤوس الماشية، وغيرها من الممتلكات. وفي العديد من أنحاء دارفور، تعمدت هذه القوات الحكومية والمليشيات حرق المئات من القرى، وتدمير موارد المياه، وغيرها من منشآت البنية التحتية، مما يزيد من صعوبة عودة السكان السابقين.” وهذه هي نفس الممارسات التي شاهدنا تكرارها اليوم من قبل مليشيا قوات الدعم السريع في قرى الجزيرة ودارفور وفي ولاية الخرطوم وغيرها من المناطق التي تصل إليها جحافلها.
وصف الشاعر السوداني الراحل محمد الحسن سالم حميد، حالة الوكالة السياسية هذه في شعره الذي وثق في مجمله لتطورات مشهد التاريخ السياسي في السودان (سِيد من وراه السِيد، يتغيروا الأسياد، لكنه نفس القيد، نفس الربط في الإيد). وهو الوصف البديع الذي ينطبق على حالة مليشيا قوات الدعم السريع في تمظهرات تطورها المختلفة بوضع سلاحها وانتهاكاتها في خدمة من يدفع أكثر ولتحقيق مصالح سادتها على حساب أمان واستقرار وسلام حياة ومعاش السودانيين.