سلمى حمد
لماذا تنفق الإمارات كل هذه المليارات في بلد فقير أنهكته الحروب والانقسامات؟
هل توافق الإمارات على إنفاق كل هذا المال لمجرد محاربة الإسلام السياسي؟
أسئلة متكررة بين دماء الضحايا وخيبة أمل المراقبين! وللإجابة على ذلك يمكن أن نعود إلى ما ورد في مقال نشر على موقع وكالة الصحافة الفرنسية بتاريخ 2/5/2023 بعنوان: “حرب المصابيح والكنز المدفون”.
وجاء فيه:
“يمثل السودان الكنز المدفون للدول الكبرى، إذ يمتلك 200 مليون فدان من الأراضي الزراعية الخصبة، و11 نهراً جارياً، و102 مليون رأس من الماشية، و400 مليار متر مكعب من الأمطار السنوية، إلى جانب 1.4 مليون طن من اليورانيوم، و6.8 مليار برميل من النفط، و85 مليار متر مكعب من الغاز.
يحتل السودان المرتبة الثانية في إنتاج الذهب على مستوى القارة الإفريقية بإنتاج يتجاوز 90 مليون طن سنوياً تصل قيمته إلى خمسة مليارات دولار، بفضل موارده من الفضة والنحاس واليورانيوم وغيرها، إلى جانب موقعه الجيوسياسي المطل على البحر الأحمر وبوابة القرن الإفريقي”.
هذا هو السودان في عيون الطامعين: كنز مدفون وجائزة كبرى في انتظار من يخطفها.
لكن الإمارات ترى السودان كنزاً إضافياً يمكن أن يحل أزماتها الهيكلية في الغذاء والموارد، ومستودعاً بشرياً ضخماً لتزويدها بالمرتزقة. فهي دولة صغيرة ذات عدد سكان محدود (لا يتجاوز عدد المواطنين المليون)، لكنها تسعى لفرض نفسها كقوة عظمى عبر المال والسلاح، وتظن أنها قادرة على إخضاع الشعوب وحرمانهم من ثرواتهم.
الإمارات، رغم غناها بالنفط، تعاني فقراً حاداً في المعادن الأخرى والأراضي الخصبة حيث لا زراعة ولا ماء. لم يعرف شعبها معنى الرزق إلا بعد تصدير أول شحنة نفط في 1962. ومنذ ذلك الحين يطاردها شبح “ما بعد النفط”، فبدأت تبحث عن بدائل لحفظ رفاهها عبر أبسط أشكال النفوذ السياسي والعسكري.
ومن أهم هذه البدائل: شراء الموانئ والسيطرة على المسطحات المائية لضمان التحكم في وسائل التجارة العالمية. لكنها فشلت مراراً، كما حدث في ميناء دوراليه بجيبوتي، ميناء بربرة وبوصاصو في الصومال، ميناء سنجق في إزمير بتركيا، وميناء أبو عمامة في السودان، إضافة إلى مشروع خصخصة ميناء بورتسودان لصالح “موانئ دبي” الذي أُحبط تحت ضغط الرأي العام. كما فشلت محاولتها للسيطرة على موانئ نيويورك ونيوجيرسي وبالتيمور وميامي وفيلادلفيا ونيو أورلينز عام 2006 بعد تدخل الكونغرس الأمريكي.
أدركت الإمارات أن المال وحده لا يكفي لبناء نفوذ عالمي، وأن تكديس أحدث الأسلحة لا يصنع جيشاً، وأن القوى العظمى لا بد أن تمتلك جيوشاً للبناء والحماية. ومن هنا جاء رهانها على السودان كمضخة بشرية تمدها بمقاتلين يبنون مع أبنائهم قواعد إمبراطوريتها السياسية والاقتصادية والعسكرية. وقد استخدمت الإمارات فعلياً آلاف الجنود السودانيين في حرب اليمن ودعماً لحليفها حفتر في ليبيا.
ربما أبرز دليل على التوسع العسكري الإماراتي هو شبكة قواعدها التي تحيط بالسودان من كل جانب:
•قاعدة جزيرة عبد الكوري قرب سقطرى (خليج عدن)
•قاعدة عسكرية في ميناء المخا (البحر الأحمر)
•قاعدة في جزيرة ميون (باب المندب)
•قاعدة الريان في حضرموت
•قواعد في بوصاصو وبربرة في الصومال
•قاعدة “أم بيل” في تشاد
•قاعدة “عصب” في إريتريا
•قواعد “خوروبا” و”الخادم” في ليبيا
•قاعدة “بيراو” في إفريقيا الوسطى
•قاعدة عسكرية تحت غطاء “مستشفى ميداني” في شرق أويل، جنوب السودان
هذه القواعد تطوّق السودان كما يلتف السوار حول المعصم، تمهيداً للسيطرة على ثرواته. وقد نجحت الإمارات حتى الآن في الاستحواذ على نحو 90% من إنتاج الذهب السوداني، وبدأت أيضاً بتهريب اليورانيوم والمعادن النادرة من منطقة “حفرة النحاس” التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
وعلى صعيد الأمن الغذائي والاستثمار الزراعي، خططت الإمارات للاستحواذ على أخصب الأراضي وأكبر المشاريع الزراعية:
•مشروع وادي هور الزراعي: يهدف إلى تأهيل 2.4 مليون فدان كمرحلة أولى من أصل 5 ملايين فدان، ويعد من أكبر مشاريع الأمن الغذائي في العالم.
•مشروع 300 ألف فدان مطري في الولاية الشمالية.
•مشروع زايد الخير في ولاية الجزيرة بمساحة 40 ألف فدان.
•مشروع أبو حمد الزراعي (400 ألف فدان) مع طريق يربطه بالميناء المقترح في أبو عمامة.
ولم تكتف الإمارات بالتلاعب الاقتصادي والتدخل العسكري والاستغلال، بل ذهبت إلى ما هو أخطر: التغيير الديمغرافي. فلتغيير هوية البلاد وتركيبها السكاني، تنظر الإمارات إلى سكان وسط وشمال السودان باعتبارهم الأكثر تمسكاً بالهوية الوطنية والدولة المركزية، والأكثر وعياً بأطماع القوى الأجنبية، مما جعلهم قاعدة تاريخية للمقاومة ضد الاستعمار. لذلك سعت أبوظبي إلى دعم موجات تهجير غير مسبوقة باستخدام عنف مفرط، من قتل واغتصاب وطرد وإذلال، بهدف إفراغ هذه المناطق من سكانها الأصليين وتوطين مجموعات بديلة، خصوصاً في المناطق الزراعية والإستراتيجية.
ومن منظور جيوسياسي، فإن سيطرة الإمارات على موانئ السودان وموقعه على البحر الأحمر تعني التحكم في شرايين التجارة الدولية من باب المندب إلى قناة السويس.
وأخيراً .. ماذا عن حرب الإمارات على الإسلام السياسي؟
ليست سوى خدعة خبيثة تُستخدم لتقسيم الصف الوطني وإقناع السذج بأن حربها ضد (الكيزان) لا ضد السودان.
الخلاصة
حصار السودان بالقواعد العسكرية، والاستيلاء على ثرواته وأراضيه ومياهه، والتحكم في موانئه وموقعه الإستراتيجي، كلها أدوات في مشروع الإمارات لبناء نفوذ عالمي. السودان بالنسبة للإمارات ليس جاراً ولا شريكاً، بل مستودع للثروات والرجال يحافظ على شرارة “الثراء والرفاهية” بعد أفول النفط.
وقد أكدت صحيفة لوموند الفرنسية هذا الاتجاه في تقرير بتاريخ 29 أبريل 2023 جاء فيه:
“تخطط الإمارات لإغراق السودان في دوامة لا تنتهي من الفوضى كبديل للانقلاب الفاشل الذي دعمته ميليشيات الدعم السريع”.
وبهذا المعنى، لا يبدو ما يجري في السودان مجرد صراع داخلي، بل جزء من مشروع خارجي منظم يسعى لمصادرة أرض السودان وثرواته وشعبه. ما لم يدرك السودانيون هذه الحقيقة ويتعاملوا معها بوحدة وحزم، سيظل وطنهم رهينة للمشاريع الإقليمية التي لا ترى فيه سوى “كنز يُنهب وجغرافيا تُستغل”.
