مائة يوم في القاهرة (٣)

عبداللطيف البوني

الصورة (فلاشابك)
أكرر شكري وتقديري لكل الذين علقوا على المنشورين السابقين من هذة السلسلة.. كثيرون ارسلوا لي في الخاص تعليقاتهم… فطلبت منهم نقل تعليقاتهم لهذة الصفحة لتعم الفائدة… بعضهم استجاب مشكورا وبعضهم اعتذر بحجة انه لايود ان يظهر ولكل امري فيما بحاول مذهب…
لابد لي من التنويه بأن هذة السلسلة عبارة عن انطباعات شخصية عن الشارع المصري العام… مع استصحاب للشارع السوداني في هذا المناخ الذي افرزته الحرب… وليست لمناقشة السياسات الرسمية في اي من البلدين ولا المواقف الحكومية في اي من البلدين… فإن وصلت السلسلة الي حقيقة مفادها ان الحرب السودانية الماثلة فتحت أو يمكن أن تفتح مسارا جديدا للعلاقة بين البلدين تأسيسا على علاقات شعبية متجددة يكون ذلك توفيق من الله يسعد الكاتب…. وان وفقت في رمي حجر جديد في بركة هذة العلاقات يكون خير وبركة.. وان لم توفق في اي من هذاين اعتبروها فضفضة سائح في بلاد الله ونغني كلنا مع وردي (يلا وتعال يلا نهاجر في بلاد الله…)
في المقال الاخير وبلغة الفيسبوك المنشور الاخير قلنا ان معظم السودانيين الذي اتت بهم الحرب الي مصر كانوا يحملون صورة ذهنية سلبية عن مصر والمصريين….وان هذة الصورة تحولت من خانة السلب الي الايجاب بعد أن مكثوا في القاهرة فترة تترواح ما بين العام والعامين…دعوني اليوم احاول القيام بعصف ذهني ذاتي و محدود يلخص هذة الصورة السالبة ويبين مصادرها.. تتلخص هذة الصورة في ان مصر لديها مصالح في السودان تحولت إلى اطماع… وبالتالي سياستها الثابتة تجاه السودان تقوم على استتباع السودان لها… وجعله حديقة خلفية تخصها وحدها… وذلك بغزوه مباشرة كما حدث من قبل او السيطرة على متخذي القرار فيه اي الحكومات… وان ذلك انعكس على المواطن المصري فاخذ ينظر للمواطن السوداني باستعلاء وانه انسان أقل ادمية منه…
قبل محاولة التعرف على من أين اتت هذة الصورة دعونا نسال ولا نتساءل سؤال محوري هل حكمت مصر السودان الحديث؟ هل غزت مصر السودان؟ المتفق عليه ان السودان الحديث ظهر في ١٨٢١ اي بغزو محمد علي باشا للسودان.. رغم ان المصريين يعتبرون محمد علي باشا هو بأني نهضتهم الحديثة… بالمناسبة امس الأول كنت اتجول في شارع محمد علي بوسط القاهرة وهو شارع تجاري رهيب… بعد هذة الجملة الاعتراضية نرجع ونقول الا ان محمد علي باشا ليس مصريا بل دخلها غازيا وبعدها غزا السودان من أجل المال والرجال ومن السودان اتجه للجزيرة العربية ليؤسس امبراطوريته التي كان يحلم بها… جيش محمد علي الذي غزا السودان كان به مصريون وسودانيون… لا بل نفر مقدر من الزعماء السودانيين كانوا قد استجدوا محمد علي ليغزو السودان نكاية في الحكم السناري… حكم محمد علي باشا السودان بقوة الحديد والنار وسام السودانيين سؤ العذاب ومع ذلك في رحلته للسودان عام ١٨٤٨..جمع أعيان البلد في فازغولي وقال لهم احمدوا ربكم ان الله بعثني لكم لكي اخرجكم من ظلمات الجهل الي انوار الحضارة… كما فعلت مع اخوانكم الجهلاء الظلاميون الذين يسكنون في شمال الوادي.. الإشارة هنا طبعا للمصريين… رحم الله استاذنا العظيم الراحل البروفسور حسن أحمد إبراهيم الذي أصدر كتابا وثائقيا هاما بعنوان رحلة محمد علي باشا للسودان تابعه منذ تحركه من القاهرة الي ان وصل المملكة السنارية وطاف بها إلى حدود الحبشة ثم رجع الي مصر محملا بخيرات السودان التي جاء خصيصا لها وذلك مصحوبا بخيبة امل كبيرة فقد كان الباشا محمد علي يظن ان السودان عبارة عن كنز كبير يمكنه من أن يكون نابليون زمانه… البروف حسن توفي بالقاهرة أثناء هذة الحرب نسأل الله المغفرة وعالي الجنان
الغزوة الثانية للسودان أيضا جاءت من مصر ولكن بتدبير بريطاني وتمويل من خزينة الدولة المصرية وبقبادة كتشنر وعدد كبير من الضباط الانجليز وقليل من الضباط المصريين اما الجيش فقد كان قوامه كله سودانيين.. لا ننسى ان كثير من الزعماء السودانيين الذين ذهبوا لمصر الدولة متضرعين لها ان تخلصهم من الحكم المهدوي جاءوا في معية حملة كتشنر وحشدوا الرأي العام للحكم الجديد…….
نظريا بعد نهاية الدولة المهدية دخل السودان في فترة الحكم الثنائي الانجليزي المصري ولكن عمليا كان حكما احاديا انجليزيا بامتياز لابل نجح الانجليز في فصم كل الروابط التي يمكن أن تجمع بين القطرين…..
خلاصة قولنا هنا الحكم الثنائي التركي المصري (١٨٢١…١٨٨٤) والحكم الثنائي الانجليزي المصري (١٨٩٨…١٩٥٦) في السودان لم يكن حكما مصريا في السودان… واي كلام عن استعمار مصر للسودان يدخل في باب التدليس التاريخي… فالإنسان السوداني لم يتعرض في تاريخه الحديث لكرباج من إنسان مصري اما ان الغزو جاء من جهة مصر فهذا يؤكد ان الوحدة الجغرافية البلدين قام عليها عمل سياسي كبير و لا وبل يمكن أن يقوم عليها مستقبلا انها (الجيوبولتيك).. اا قولوا لي بربكم لماذا لم يتجه الإمام المهدي وخليفته عبد الله ود تورشين بعد أن استتب لهم حكم السودان الي جهة غير مصر؟ لماذا ارادها المهدي إصلاحية شمالية وليست لنشر الإسلام في كل أفريقيا؟ لو اتجه المهدي غربا لوصل المحيط الاطلنطي بكل سهولة ولكنه لم يفكر مجرد فكرة… افتكر مافي داعي نرجع لبعانخي وترهاقا خلونا في سودان الجن الحالي دا … إنها الحقيقة الجيوسياسية وهي حقيقة وجودية..
الحديث في الحتة دي والتي قبلها اي العلاقات التاريخية بين البلدين يطول…
إذن يا جماعة الخير ان التاريخ الخالي من التزوير والتدليس يثبت عدم تعرض المواطن السوداني لأي ظلم مباشر من المواطن المصري… وذلك ببساطة لانه لم بحكمه في يوم من الايام… فيثور السؤال من جديد من أين جاءت هذة الصورة السالبة عن مصر والمصريين ؟
جاءت من الدولة المصرية التي كان يحكمها الالبان والشركس والارنؤط وفيما بعد من الدولة المصرية التي كان يسيطر على قرارها الانجليز…. لذلك يجب أن نفرق بين الدولة المصرية والمواطن المصري … الدولة الوطنية المصرية ظهرت مع جمال عبد الناصر (مافي مانع ان قلت محمد نجيب ارضاء للهوى السوداني ) هذة الدولة وفي وقت مبكر من عمرها أعطت السودان حق تقرير المصير (١٩٥٣) والتي بموجبها استقل السودان في يناير ١٩٥٦..اما لماذا فعل عبد الناصر ذلك؟ وهل كان في مقدوره ان يسلك مسلكا اخر يبري مصر من حكم السودان مع حفظ رباط الوحدة بين البلدين ؟ فهذا امر دار فيه جدل كثير وكتبت فيه كتب و مجلدات….
لما كان من أهداف الانجليز الرئيسية من حكم السودان هو فصله عن مصر أنشأ قلم المخابرات الانجليزي قسما خاصا الغرض منه شيطنة مصر في الذهنية السودانية … اشتغل هذا القسم بذكاء على النواحي الثقافية ومن ضمنها المناهج التعليمية والإعلام الشعبي فاحدث الشرخ المطلوب في الوجدان الشعبي…. ولكن كان الأهم هو تسخير اليات الدولة للفصل بين البلدين سياسيا و اقتصاديا … فكانت الأحزاب المعادية لمصر ليها شنة ورنة… وكانت المؤسسات الاقتصادية المتجاوزة لمصر…
بعد الاستقلال تغذت الصورة السالبة المشار إليها بالأخطاء القاتلة من الحكومات الوطنية في مصر والسودان… وهذة أيضا يطول شرحها واذا أمد الله في الآجال سوف نتعرض لها وان كان ما كتب فيها تسعه كتب و مجلدات
لنقفز ونختم ونتساءل هل يمكن للحرب الحالية والتي لم تنتهي بعد أن تغير في الذهنية السودانية تجاه مصر؟ لا ادعي القدرة الإجابة على هذا السؤال ولو بنسبة ضئيلة… ولكنني اقول وباقصى ما يتيحه لي هذا الكيبورد ان هذة الحرب حدث لايقل خطورة واثرا عن غزو السودان في ١٨٢١ وغزو السودان ١٨٩٨… فتابعوا تداعياتها اما للحي البعيش فاليتابع آثارها ونواصل ان شاء الله

Exit mobile version