رأي

مائة عام من العزلة رحلة تخييلية

بروفيسور أبشر حسين

خَذَلني مخرج حلقات مسلسل «مائة عام من العزلة» المأخوذ من الرواية التي كتبها الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز.

رواية مائة عام من العزلة بالفعل عمل أدبي معقّد وغني بالرموز والأساطير، مما يجعل تحويله إلى عمل درامي تحديًا كبيرًا. غابرييل غارسيا ماركيز نفسه كان متحفّظًا بشأن اقتباس الرواية إلى فيلم أو مسلسل، لأنه كان يعتقد أن جمالية العمل تكمن في لغته وأسلوبه السردي الذي يصعب نقله بصريًا.
يبدو أن المخرج لجأ إلى أسلوب الراوي لتعويض صعوبة تمثيل مشاهد معقّدة أو رمزية، مثل مشهد طيران ريميديوس الجميلة إلى السماء أو تفاصيل واقعية سحرية أخرى. قد يكون هذا حلًّا عمليًا، لكنه لا يعوّض السحر الذي يخلقه النص الأدبي.
مشاجرات السودانيين في الحانات: إذا كان المسلسل قد أغفل هذه المشاهد، فقد ضيّع جزءًا من تعقيد الأحداث الذي يربط بين العناصر الثقافية والتاريخية والشخصيات. وجود السودانيين وإشاراتهم في الرواية كان يمكن أن يعزّز الغرائبية التاريخية للمجتمع المتنوّع في ماكوندو.
أوريليانو بوينديا: شخصيته فعلًا معقّدة، فهي تجمع بين تناقضات عميقة: شاعرية الحس والعنف المفرط. تمثيل هذه الأبعاد يتطلّب أداءً تمثيليًا استثنائيًا وكتابة حوارية دقيقة، لأن أوريليانو ليس مجرد قائد عسكري، بل رمز للتحولات البشرية بين الحب والحرب.
إن مائة عام من العزلة ليست مجرد قصة، بل رحلة تخييلية مفعمة بالواقعية السحرية، حيث تصبح المشاهد التي تبدو «غير منطقية» مقبولة ضمن عالم الرواية. مشاهد مثل طيران ريميديوس الجميلة، أو طوفان الحشرات، أو الأمطار التي استمرت سنوات، كلها تتطلّب تقنيات سينمائية مدهشة وفهمًا عميقًا للروح الأدبية، وهو أمر يصعب تحقيقه دون فقدان الجوهر.

خارج النص:

لا زلتُ أذكر الامتحان الشفهي للجزء الثاني من امتحان تخصّص الباطنية، حيث امتحنني العالِم النحرير البروفيسور الضو مختار – رحمه الله – ومعه الممتحن الخارجي. وبعد نهاية الامتحان قال لي البروف: «هذا السؤال خارج الامتحان: هل قرأتَ لغابرييل غارسيا؟» فأجبته: «نعم». فسألني: «أيّ الروايات قرأت؟» فقلت: خريف البطريرك، جنازة الأم العظيمة، أجمل رجل غريق في العالم، الحب في زمن الكوليرا، الجنرال في متاهته.
فقال لي: «لكنك لم تذكر أهم رواياته التي كانت سببًا في حصوله على جائزة نوبل للآداب». فقلت: «لقد نسيتها» (وهي رواية مائة عام من العزلة). ثم سألني: «أي نسخة مترجمة قرأت؟» فقلت: «النسخة اللبنانية». فقال: «هل شممتَ منها أن السودانيين قد نقلوا الحُمّى الصفراء إلى أمريكا (المكسيك)، أم هو تشويه للحقائق؟» فقلت: «لم أفهم السؤال». فضحك ضحكته الطفولية وقال: «هل تذكر عندما كان غارسيا يتحدث عن السودانيين وهم يسبّبون المشاكل داخل البارات، وكيف جعل إحدى بطلات روايته تطير في السماء يوم زواجها من أوريليانو الثالث متأثرًا بالفكر الصوفي (الشيخ طار والشيخ رَكَه)؟»
فسألتُ البروف – بغباء لا يُحسدني عليه أحد –: «وهل هؤلاء السودانيون الذين ذكرهم غارسيا هم سودانيون حقيقيون؟» فقَهقه البروف وقال: «نعم، هم أورطة سودانية أرسلها الخديوي إلى أمريكا (المكسيك) عام 1863، وقد شاركت هذه الأورطة في إنهاء الحرب الأهلية في أمريكا، وعاد منهم من عاد وبقي منهم من بقي هناك». وقد دلّني البروف على كتاب «رجال يحبّون الموت» الذي يحكي عن بطولات هؤلاء الرجال الأشاوس.
وأنا أستعرض هذه القصة عن تاريخنا المخفي بفعل فاعل، أتذكر ما يحاول البعض إلصاقه من أقاويل عن ود حبوبة، وأتساءل عن ثورة النوير في تاريخ السودان، وثورة المك عجبنا، وأين بطولات موسى ود حجل:
حليل موسى يا حليل موسى، حليل موسى للرجال خوسه،
يوم جانا الحصان مغلوب على ظهره السرج مقلوب،
ابكن يا بنات حي يوب، حليل موسى وسدوه الطوب، حليل موسى يا حليل موسى.

كما أتذكّر مدرسة الغابة والصحراء (صلاح أحمد إبراهيم وغابة الأبنوس، النور عثمان أبكر وغناء للعشب والزهر وصحو الكلمات المنسية، ومحمد عبد الحي و«العودة إلى سنار»، ومحمد المكي إبراهيم و«بعض الرحيق أنا والبرتقال أنتِ وأمتي»). أين كجراي وفضيلي جماع؟ بل أين جيلي عبد الرحمن – وهو من أقصى الشمال – فهذه الثقافة لا تفرّق بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، بل هي أفكار ومصالح.ولماذا لم يحظَ كتاب «حياتي» لمؤلفه بابكر بدري بالانتشار الذي يستحقه؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى