تقارير

كيف نجا سوق صابرين؟

الأحداث – وكالات
قبل 15 أبريل من العام الماضي، كان ذكْرُ سوق صابرين بأم درمان لا يأتي على ألسنة سكّان محلية كرري إلا عندما يرتفع سعر الخضروات ب «مَلَجَة » السوق الشعبي بأم درمان، أما في غير تلك الحال، فإنه يوصف عادةً بما فيه دون مجاملة؛ فوضى الزحام غير المنتظم، مياه صرف صحي تُغرِقُ جوانبه، مداخل ضيقة، شوارع ترابية بائسة، و «نشّالون » يصطادون جيوب الناس في لمح البصر. وبانقضاء «عشرة أشهر » على الحرب الدائرة بين الجيش والدعم السريع، وما لحق بالأسواق الأخرى بالعاصمة السودانية الخرطوم من دمار.
صعد سوق صابرين عتبة مرحلة جديدة في تاريخه، فقد أصبح الوجهة الوحيدة التي يحصل منها سكّان أم درمان بجزأيها معاً – الواقع تحت سيطرة الجيش، والواقع تحت سيطرة الدعم السريع – على حاجاتهم الضرورية من طعام وشراب وكساء ودواء.
بعد عمليات السرقة والسطو التي طالت الأسواق بالخرطوم مع بداية الحرب.

موجة سطو:
كان سوق صابرين في منأىً عن أعين اللصوص والمتفلّتين الذين استباحوا الأسواق ومقرات الشركات والمؤسسات العامة والخاصة، بحثاً عن أموال نقدية؛ ولم يكن متوقّعاً وجودها في جوالات بائعي الخضروات على الرصيف، والملبوسات المستعملة ورخيصة الثمن في صابرين.
لكن في الثالث من مايو الماضي، وقعت أولى محاولات السطو عليه. يقول العبيد إبراهيم أحد تجّار الأحذية بالسوق: «كُسر ونُهب فرع بنك الخرطوم الموجود بسوق صابرين من قِبَلِ أفراد مسلّحين ضمن موجة السطو على البنوك التي انتظمت العاصمة، ولأن اللصوص يعرفون أنه لا وجود لأموال نقدية داخل محلات تجارية متواضعة، لم تمتد الأيدي إلى السلع الغذائية والملبوسات والأحذية، فالتوابل والمواد الغذائية أكثر وفرةً في أماكن أخرى من الأسواق التي أصبحت مستباحةً تماماً، ويسهل الحصول عليها بجهد أقلّ من تلك التي في صابرين، لأن أصحاب المحال التجارية لم يغادروه كما جرى في الأسواق الأخرى .»
يقول آدم إسحاق، وهو تاجر دقيق كان يعمل بسوق أم درمان الواقع بالقرب من استاد الهلال، متحدثاً ل «أتَر »، إن بعض التجّار الذين نقلوا بضائعهم إلى منازلهم، كانوا يعتقدون أن «بدء عمل تجاري بسوق صابرين ليس فكرة مُحفِّزة، فهو سوق متواضع على أطراف العاصمة”.

عمليات تخريب:
وعلى الرغم من ذلك، كان سوق صابرين على عتبةِ خطوةٍ جديدة؛ إذ صار مكاناً مناسباً لمن تبقَّى من تُجار العاصمة، جلبوا إليه البضائع من مصر والسعودية وإثيوبيا وتركيا ودولٍ أخرى. يؤكد إسحاق: «حالياً يُوجد بسوق صابرين 26 مركزاً لتوزيع الدقيق الذي أصبح يُستورَدُ من مصر وتركيا »، وهو عدد يقترب من عدد مراكز توزيع الدقيق في مدينة أم درمان بأسرها قبل اندلاع الحرب. أما عدد محلات الجملة للمواد الغذائية فقد بلغ، وفقاً لإسحاق، أكثر من 90 محلاً تجارياً.
يقول بابكر فضل الله، الذي يعمل وسيطاً لمستوردين من مصر، إنّ سوق صابرين صار بديلاً لأسواق العاصمة التي تعرَّضت لعمليات تخريب واسعة، وسطو منظم. ويخبر فضل الله «أتَر »، بأن التجار لجأوا إلى استيراد المواد الغذائية من مصر بعد تخريب الأسواق وتوقف المصانع المحلية.
أُنشئ سوق صابرين في منتصف التسعينيات لخدمة سكّان الأحياء الشمالية لمحلية كرري، الواقعة شمال محلية أم درمان، وظلّ باستمرار وجهةً غير مُفضّلة للمُتسوّقين من بين ثلاثة أسواق بأم درمان: «سوق ليبيا، وسوق أم درمان الكبير، والسوق الشعبي »، تميَّز كلٌّ منها بما لا يوجد في سوق صابرين، حيث يحوي سوق أم درمان الأواني المنزلية، ونوافذ لبيع جميع منتجات مصانع المواد الغذائية ومحلات للملبوسات النسائية والرجالية الفاخرة؛ أما سوق ليبيا فمقرٌّ رئيسٌ لمصانع وشركات استيراد الأحذية والملبوسات والمفارش، بينما اشتُهِر السوق الشعبي بأنه سوق الخضروات والتوابل. في المقابل كان سوق صابرين حينها شعبياً للغاية، على مقياس سكّان غرب الحارات الشعبية، ولا يعدو أن يكون محطة مواصلات عامة تربط سكان الريف الشمالي والغربي للعاصمة بوسطها، يلتقطون ما يحتاجون إليه وهم قادمون إلى منازلهم بعد يوم عمل شاق، قبل أن تضع الحرب على عاتقه حياة سكان أم درمان وسبل عيشهم.
وبعد مرور شهر واحد على اندلاع الحرب في منتصف أبريل، توارت السلع المحلية التي كانت تُنتجها المصانع الوطنية، مثل الصابون والزيت والشاي والبسكويت والمكرونة والمياه المعدنية، وحلت محلها سلعٍ قادمة من مصر. وبحلول منتصف شهر مايو كانت البضائع المصرية تُنقل مباشرة من معبر أرقين وحلفا القديمة إلى سوق صابرين بأم درمان.
يشرح بابكر فضل الله طريقة الاستيراد الجديدة التي اتّبعها التجار أثناء الحرب، قائلاً: «في السابق كان من الضروري امتلاك سجلّ تجاري، وفتح اعتماد بنكي لاستيراد أي سلعة من الخارج، لكن أثناء الحرب استعاضت السلطات الرسمية عن إجراءات الاستيراد السابقة بأخرى جديدة، تمثلت في دفع غرامة مقدارها واحد في المائة من قيمة السلعة المستوردة، ودفع الجمارك كاملة”.

استيراد سلع:
شجّع النهج الجديد كثيرين من غير تجار السلع الاستهلاكية على دخول معترك الاستيراد، وتخلّى كثيرٌ من أصحاب الأنشطة التجارية الأخرى عن مجالاتهم السابقة، واستعاضوا عنها باستيراد السلع من مصر مباشرة. وازداد عدد مستوردي المواد الغذائية حتى أصبح من غير المستغرب أن يظهر بين الفينة والأخرى من ليس له علاقة سابقة بهذه الأنواع من الأنشطة التجارية.
ونتيجة للتعدّي على أكثر الأسواق أهمية بالخرطوم، يجري استيراد كلّ ما يُتوقع أن يحتاج إليه الناس، لذا ظهرت زيوت طعام مُصنّعة في روسيا وأخر ىتركية وسعودية، وقدمت سلعٌ من ليبيا ومن إثيوبيا ويوغندا، جميعها وجدت طريقها إلى سوق صابرين بأم درمان. لكنَّ تراجع سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار، أحدث أثراً على استيراد السلع الغذائية من مصر، فتراجعت حركة التجارة وأصبح الوارد من هناك إلى سوق صابرين أقل بكثير مما كان في السابق.
وبمرور عشرة أشهر على اندلاع الحرب، تراجعت حركة الشراء نفسها لأن الناس إما استنفدوا مدّخراتهم تماماً، أو حصروا احتياجاتهم اليومية على الضروريات المُلِحَّة من الطعام والشراب في الحد الأدنى. وقد تسبب دخول قوات الدعم السريع إلى ولاية الجزيرة في 19 ديسمبر الماضي في زيادة كبيرة في أسعار المواد الاستهلاكية، وذلك لأن بعض المصانع التي كانت تعمل في ولاية الجزيرة وتمدُّ أجزاء من ولايات دارفور وكردفان والنيل الأبيض وأطراف ولاية الخرطوم الجنوبية توقفت عن العمل، وتزامن ذلك مع ارتفاع أسعار البضائع المصرية نتيجة لارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري.
يقول محمد صديق، وهو تاجر تجزئة بسوق صابرين، ل «أتَر »، إن سعر جوال الدقيق المصري قفز من 11 ألف جنيه إلى 23 ألفاً، والتركي من 12 ألفاً إلى 24 ألفاً للجوال الواحد. وقفز سعر جركانة الزيت زنة 36 رطلاً من 36 ألفاً إلى 60 ألفاً، ورطل البن من 1200 جنيه إلى أربعة آلاف جنيه، ورطل الشاي الذي كان سعره 200 جنيه أصبح يتراوح بين 3600 جنيه و 5 آلاف جنيه. وارتفع سعر مَلوة العدسية التي أقبل عليها الناس بسبب تدهور الحالة الاقتصادية من ألف جنيه إلى أربعة آلاف جنيه. ويضيف صديق: «كانت ثلاثة أكياس مكرونة تُباع بألف جنيه، وحالياً أصبح الكيس الواحد بألف جنيه .»
كذلك ارتفع سعر جوال العدس زنة 15 كيلوغراماً من 11 ألف جنيه إلى 30 ألف جنيه، بينما ارتفعت أسعار اللحوم رغم قلة الإقبال عليها؛ فقد قفز كيلو لحم الضأن من ستة آلاف جنيه إلى تسعة آلاف جنيه، وزاد كيلو لحم البقر من أربعة آلاف جنيه إلى سبعة آلاف جنيه.
وتوقفت حركة نقل البضائع من سوق صابرين إلى أجزاء واسعة من محلية أمبدة، التي تقع تحت سيطرة الدعم السريع لعدة أشهر، لكن بحسب ثلاثة من تجار الجملة بالسوق، فإن السلطات حدَّدَت يومين من كل أسبوع لإدخال البضائع إلى أمبدة. وقال تجّار – فضَّلوا حجب أسمائهم – إن التجّار العاملين في أمبدة أصبح مسموحاً لهم نقلُ البضائع خلال يومين في الأسبوع، لكن بسبب عدم توفر وسائل النقل وانتشار العصابات المُسلّحة، وتعدُّد ارتكازات طرفي الحرب على طول الطريق الرابط بين سوق صابرين وأمبدة، فضلاً عن ارتفاع الرسوم التي يتحصّلها كلٌّ من طرفي الحرب على المواد الغذائية؛ غالباً ما يأتي تاجر واحد لنقل بضائع إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع. لذلك يعاني السكان في المناطق الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع بكلّ من محلية أمبدة وأم درمان، من نقص حاد في المواد الغذائية بسبب منع حركة المواطنين بين الأحياء التي تحوّلت إلى مسارح عمليات عسكرية ولعدم توفر وسائل النقل. ويقول مواطنون من أمبدة، التي لا تبعد عن سوق صابرين أكثر من سبعة كيلومترات، وقالوا ل «أتَر »، إن كيلو الدقيق الواحد يباع بثمانية آلاف جنيه.
أما في أحياء العباسية، وبانت والموردة، والعَرْضة والهاشماب بمحلية أم درمان؛ فقد نفدت المواد الغذائية من جميع المنازل والمتاجر، عقب منع الدخول والخروج إلى هذه الأحياء، مما جعل السكّان يلجأون إلى اصطياد الطيور غير الداجنة ليسدّوا بها رمقهم من الجوع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى