كلية القانون جامعة الخرطوم واثرها في تشكيل الوجدان الوطني العام

ابوذر الغفارى
أصدرت الرابطة التسييرية لطلاب كلية القانون جامعة الخرطوم العدد الثاني من مجلتها “قسطاس” متضمنة مقالتي حول كلية القانون وأثرها على المستوى الوجداني الوطني عبر أشعار خريجيها ، وجاءت على النحو التالي
تمدد تأثير كلية القانون جامعة الخرطوم على فضاء المهن القانونية على امتداد حدود الدولة السودانية خلال ما يزيد على مئة وعشرين عاماً منذ أن وضعت لبنة الكلية الأولى من خلال قسم القضاة الشرعيين بكلية غردون التذكارية عام 1902، وامتد هذا التأثير عبر عطاء خريجيها إلى المحيط الإقليمي، والمستوى العالمي في المنظمات الدولية ودول المهجر. ويبدو هذا الأثر واضحاً في الأفق الوطني في اسهام خريجي الكلية في صياغة النظام القانوني الذي تشكل عبر الحقب السياسية والتاريخية المتعاقبة، ويكفي في الدلالة عليه أن الأغلبية الكاسحة من وزراء العدل ورؤساء القضاء وعدد من رؤساء الوزارة خلال العهد الوطني كانوا من خريجي الكلية.
لم يقف تأثير خريجي الكلية عند عتبة المجال القانوني وانما امتد في فضاء آخر لا يقل أهمية وهو صياغة الوجدان الشعبي وإثراء العاطفة عبر الكلمة المنظومة والملحنة التي لامست الحس العام. وقد برز من خريجي الكلية شعراء أبدعوا في كتابة القصيدة أو وجدت كلماتهم من خلال الغناء حظها في التأثير العام، فلعبوا دوراً مميزاً في تشكيل الحس العاطفي وفي اشعال الشعور الوطني والقومي وانتقلت دائرة
التأثير الأدبي لما وراء الحدود.
محمد أحمد محجوب
يأتي في طليعة شعراء الكلية محمد أحمد المحجوب، السياسي والكاتب ورئيس الوزراء الأسبق الذي ينتمي إلى الدفعة الأولى التي قبلت في مدرسة القانون بعد تاسيسها عام 1935، ورافق فيها طلائع الطلاب الذين ساهموا في إرساء النظام القانوني السوداني ومن بينهم أبورنات والعتباني وأبراهيم المفتي. وقد جاء المحجوب الكلية طالباً ناضجاً بعد أن أنهى دراسته في الهندسة وعمل بمجالها حيناً من الزمن، فحصل على شهادة في القانون وعمل بعد تخرجه في مجال القضاء والمحاماة وأخذته السياسة نحوها، فكان أول زعيم للمعارضة بعد الاستقلال.
صدر للمحجوب عدة دوواين منها مسبحتي ودني، والفردوس المفقود. وتعد قصيدة الفردوس المفقود التي تصدرت ديوانه الذي سمى عليها إحدى فرائد القصائد التي وجدت قبولاً وصدى على نطاق الوطن العربي وتبنتها عددة دول في مناهجها التعليمية، لما تحمله من مضامين دينية وقومية حية. وهي قصيدة بدأها في إسبانيا أثناء زيارته لمؤتمر فيها، وأكملها بعد عودته للسودان بعد حرب يونيو 67. يقول فيها:
نزلت شطك بعد البين ولهانا
فذقت فيك من التبريح ألوانا
وسرت فيك غريبا ظل سامره
داراً وشوقاٍ وأحباباً واخواناً
فلا اللسان لسان العرب نعرفه
ولا الزمان كما كنا وما كانا
ولا الخمائل تشجينا بلابلها
ولا النسيم سقاه الطل يلقانا
ولا المساجد يسعى في ماذنها
مع العشيات صوت الله ريانا
ينتمي المحجوب إلى المدرسة الكلاسيكية الرصينة على غرار الشعراء الكبار الذين عاصرهم مثل شوفي وحافظ إبراهيم، ويدور شعره حول الوطن والحرية والتراث والحس الشخصي. وكان صوته عالياً ومؤثراً على أبناء جيله والاجيال اللاحقة نسبة لنشاطه الأدبي والسياسي والفكري الجم.
الرشيد نايل
انتمى الرشيد نايل إلى قسم القضاء الشرعي بكلية غردون التذكارية، وعمل قاضياً بالمحاكم الشرعية. ثم انضم إلى مدرسة القانون بعد إنشائها وتخرج فيها عام 1952 وعمل قاضياً ثم اختار مهنة المحاماة لاعتقاده أنها لا تكبل قدراته السياسية والأدبية. وقد برزت قدراته الشعرية منذ أن كان طالباً بقسم القضاء الشرعي، فكتب عنه بروفسير عبد الله الطيب في كتابه “حقيبة الذكريات”: ( فزت بجائزة الشعر وانا بالسنة الثالثة, ولم أفز بها إلا لأن الرشيد نايل كان غائباً، فقد كان لا يدعها لأحد، فاز بها في كلتا سنتينا الاولى والثانية. في السنة الأولى عن قصيدته في الهجرة النبوية ومطلعها : قمرٌ بصحبة كوكبِ قد امعنا في السبسبِ. أما في السنة الثانية، فقد خيرنا بين رثاء الملك جورج الخامس أو الملك فؤاد . رثى الرشيد نايل الملك فؤاد وفاز بالجائزة، قال عمي واستاذنا جلال الدين لي ولابنه محمد المهدي المجذوب، اننا لم نحسن ان نقول كما قال الرشيد :
أو اما أحس الدافنــوه قــدره
أو اما دروا أي المصاب به دُهوا
وبراعة القافية في بهي “دهوا” لا تخفى واذكر له قصيدته في رحلة نظمتها الكلية الى جبل مرة يقول فيها:
مطـــيتنا تسير بلا عــنانِ وتقتحم الفــــلاة بلا تواني
اخفّ من الظنون على الفيافي وأنفذ في حشاها مـــــــــــــن سنانِ”
سحب الفكر الاشتراكي الرشيد نايل إلى سوحه، فتأثرت عدد من قصائده بهذا المنحى وجاءت بعضها مليئة بالروح الثورية فكتب قصائد حول الثورة الكورية وعن حياة البؤس في فيافي الهامش. إلا أنه كتب في فن المراثي والغزل. ومن أجمل قصائده في مدح ثوار أكتوبر 1964:
يمشون تحت الغصون الخضر زاهيةً تكاد تفتك فتك البيض والسمر
يستقبلون وفود الموت تحسبهم بها يحيون بالريحان والزهر
يشبّهون نشاوى في بسالتهم من الحمية لا من شدة السكر
لو يصدمون الجبال الشم لانتثرت او صادفوا الفلك الدوار لم يدر
فلو رأيت امام القصر اذرعهم مع السماء وسمت القصر بالقِصَر
فلا ترد خطى قومي مدرعةٌ هوجاء راميةٌ بالنار والشرر
ولا ترد لهذا الشعب نازلةٌ من القضاء ولا عاتٍ من القدر
محمد المكي إبراهيم
قامة سامقة بين شعراء السودان وأحد مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء. التحق بالكلية عام 1959 ثم غادرها إلى ألمانيا في أبريل 1962 بسبب مضايقات سياسية في الجامعة، وعاد بعد عام ليكمل دراسته الجامعية. وعمل بالمحاماة قبل أن تستوعبه الدبلوماسية والتي قضى فيها زهرة عمره.
كتب عدداً من القصائد حول ثورة أكتوبر عام 1964 عرفت بالاكتوبريات، أشهر قصيدة “أكتوبر الأخضر” التي تغنى بها الفنان محمد وردي
من أهم أعماله الشهرية” دواوين ” أُمتي ” و “بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت ” و “يختبئ البستان في الوردة ” و “خباء للعامرية” وله قصائد في المدح النبوي منها “مدينتك الهدى والنور”
ببابك يستجير الخائفون
ويجلس الفقراء.
ببابك تدخل التقوى فتوح الفاتحين
وحكمة الحكماء
وفي نَعماء عدلك ترتع الدنيا
وميزان الحساب يقام
حفاة الرأس والأقدام
ندخل في نبوتك الرحيبة
الحسين الحسن
تخرج الحسين الحسن في الكلية عام 1960 والتحق بالقضاء ثم المحاماة وأخيراً بالقوات المسلحة فرع القضاء العسكري حتى اصبح مديراً له برتبة لواء كما عمل في دول المهجر. وقد كتب عدداً من القصائد التي امتازت بالشعور الوجداني العميق والصياغة الشعرية الحية، أشهرها ما غناها الفنان عبد الكريم الكابلي التي يقول فيها:
حبيبة عمري .. تفشي الخبر
وذاع وعم .. القرى والحضر
وكنت أقمت .. عليه الحصونَ
وخبأتُه من فضولِ البشرْ
صنعت له من فؤادي المهاد
ووسدته كبدي المنفطر
ومن نور عيني نسجت الدثار
ووشيته بنفيس الدرر
ارتبط اسمه بالفنان عبد الكريم الكابلي في عدد من درر الغناء السوداني منها :
أكاد لا أصدق
يا أنت
إنني أكاد لا أصدق
أهذه الحروف كل هذه الحروف
صاغها (خطها) بنانك المنمق
بنانك المنعم المموسق
لا غرو أنها تأتلق
إنها تمور بالعببر تعبق
وإنها تجعلني أحترق
أسطرها بحر اشتياق
موجه يصطفق
طبعت له دار النشر بجامعة الخرطوم ديوانه الوحيد الذي جمع بعد وفاته وحمل اسم “حبيبة عمري”
الجيلي عبد المنعم
تخرج في الكلية عام 1965، وتنقل في مجالات العمل القانوني فكان مستشاراً للبرلمان حتى عام 1971، والتحق بالقضاء العسكري حيناً من الزمن ثم هاجر إلى الخليج. وهو من الشعراء الذين طبعت كلماتهم بحروف بارزة في مجال الغناء رغم قلة قصائدهم، كما أنه زواج في قدرته على الكتابة الشعرية بين اللغة الفصحى واللغة الدارجة فغنى له صلاح ابن البادية اغنية “أيامك”
أيامك باسمة ياقلبي وانت بتشكي
تتظلم وبهجران أحبابك تحكي
وتساهر الليل ونجومو
وتقاسي براك همومو
تواسيك عيوني الساهرة
كما غنى له محمد وردي “الهوى الأول”
أخادع نفسي بي حبك وأمنيها
وأهرب حتى من ذكراك وألاقيها
دموع الحسرة في عينيا أخفيها
نار الشوق أقول الصبر يطفيها
ومن أغنياته باللغة الفصحى ما غناها أيضا وردي:
لم يكن إلا لقاء وأفترقنا
كالفراشات على نار الهوى جئنا إليها وأحترقنا
كان طيفا وخيالا ورؤى ثم ودعنا الأماني وأفقنا
بالذي أودع في عينيك إلهاما وسحرا
والذي أنزل في فيك الحسن إشراقا وطهرا
لا تدعني للأسى يدفعني مدا وجزرا
أثقلت كفي الضراعات وما تقبل عذرا
يا حبيبا بت أشكو حرقة الوجد إليه
وتوسلت نذرت العمر قربانا لديه
فضل الله محمد
يعد فضل الله محمد من الأسماء اللامعة في مجال الغناء السوداني فقد شكل من الفنان محمد الأمين إحدى أشهر الثنائيات للتعاون بين الشاعر والمغني مثل ثنائية بازرعة وعثمان حسين أو ثنائية محمد وردي وإسماعيل حسن، أو ثنائية محمد عوض الكريم القرشي وعثمان الشفيع، وعدد من الثنائيات الأخرى التي ظهرت على خارطة الغناء السوداني. وقد تخرج في كلية القانون عام 1967. ثم التحق عقب تخرجه بديوان النائب العام. وأخذته الصحافة وبرز في مجالها.
ظهرت موهبته الشعرية والأدبية بوجه عام في وقت مبكر من حياته قبل دخوله الجامعة، فقد وثقت مجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح عدداً من أعماله تحت توقيع “فضل الله بن الجزيرة”. وكانت ثورة أكتوبر 1964 حدثاً مهماً في حياته، ساهم في إشعالها واعتقل بسببها، وكتب أجمل أشعاره فيها، ومنها «أكتوبر واحد وعشرين.. يا صحو الشعب الجبار»، و«شهر 10 حبابو عشرة» وكلاهما تغنى بها الفنان محمد الأمين وشكلتا بصمة في أغنيات ثورة أكتوبر.
غنى له الفنان محمد الأمين اشعار عديدة منها أغنيات «الحب والظروف، الجريدة، كلام زعل، الموعد أشوفك بكرة في الموعد، قالوا متألم شوية، زاد الشجون، وغيرها من الأعمال الشهيرة” كما غنى له الفنان عبدالعزيز محمد داود «في حب يا أخوانا أكتر من كدا»، وكانت أغنيات “طريق الماضي” و”بوعدك” من نصيب أبو عركي البخيت، .وتظل أغنية “من أرض المحنة ومن قلب الجزيرة إحدى أغنيات الحب المنثور في مدينة ود مدني تغنى بها الفنان محمد مسكين.
عبد الباسط سبدرات
برز اسهام عبد الباسط سبدرات في عوالم السياسة والعمل المهني بصورة كبيرة، فقد شغل عدة مناصب وزارية منهاوزير العدل ووزير التربية والتعليم، إلا أن صوته الشعري كان مميزاً، وقد
التحق بالكلية عام 1964، وعاصر بها فترة المد الثوري التي أطاحت بنظام الفريق إبراهيم عبود، ولم تقتصر أشعاره عليها فكتب في الغزل الناصع، وتظل اغنية “رجعنا لك” التي تغنت بها البلابل واحدة من لطيفاته الرقيقة والمحببة بين أغنيات جيله:
رجعنالك عشان تاه الفرح من دارنا
وإنت ديار فرحنا
رجعنالك عشان ناحت سواقينا
وبكت شتلات قمحنا
رجعنالك وكيف نرفض
رجوع القمرة لي وطن القماري».
غنى له محمد الأمين أيضاً “ابل الرحيل”
خاتمة
يلاحظ أن الاحتفاء بثورة أكتوبر 1964 والمساهمة في ترسيخ مضامينها من خلال الشعر كان سمة غالبة في معظم اسهامات شعراء الكلية، وربما يعود السبب في ذلك الى أنها أول ثورة شعبية تعبر عن اجماع الشعب على التغيير ورغبته في تحقيق مجتمع أفضل من خلال حكم مدني راشد، قبل أن تلعب التيارات السياسية دوراً في خلق اتجاهات فكرية مغايرة لهذه التوجهات.
أبو ذر الغفاري بشير عبد الحبيب
https://www.facebook.com/share/p/1DEMgnU4KC/



