الأحداث – وكالات
حقق الجيش السوداني قفزة كبيرة بفكه الحصار المستمر منذ أكثر من عام ونصف العام عن مقر قيادته العامة بالخرطوم، ثم باستيلائه على مصفاة النفط في الجيلي شمالي الخرطوم بحري.
وقد عد خبراء استراتيجيون هذا التطور بأنه لحظة حاسمة في عمر الحرب التي تدور بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ ما يقارب العامين.
وبحسب “الجزيرة نت ” يكشف التقرير التالي أسرار وتفاصيل هذا التطور العسكري الضخم في مجريات الحرب في السودان.
الخامسة مساء موعد مع التاريخ:
عند الخامسة مساء بتوقيت السودان اكتملت حلقة من التخطيط المحكم من قيادة الجيش السوداني حيث تمكنت الجيوش القادمة من ناحية الشمال والمكونة من ثلاث قوى عسكرية الأولى من قيادة سلاح الأسلحة بمنطقة الكدرو بالخرطوم بحري والثانية القادمة من منطقة وادي سيدنا شمالي أم درمان والثالثة من سلاح المهندسين بجنوب أم درمان التقت بقوات سلاح الإشارة في جنوب الخرطوم بحري والمرتبطة من الناحية الجنوبية بالقيادة العامة للجيش السوداني عبر جسر النيل الأزرق.
أخذت هذه الخطوة لتنتقل من الأماني إلى حيز الواقع نحو عام وتسعة أشهر، ولهذا كان الاحتفاء بهذا الإنجاز كبيرا وبحضور القائد العام للجيش السوداني وكبار القادة العسكريين… أهمية الخطوة أنها تفك حصار قيادة الجيش السوداني حيث يتواجد أعضاء هيئة الأركان وكبار القادة منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب في منتصف أبريل ٢٠٢٣.
الدعم السريع لا يصدق
منذ لحظة خروج تسريبات التحام الجيوش السودانية في مدينة الخرطوم بحرى التزمت قوات الدعم السريع الصمت لبعض الوقت حتى خرجت تغريدة على منصة اكس من الباشا طبيق مستشار قائد قوات الدعم السريع والذي وصف الالتحام بانه مجرد أكاذيب من نسج فلول نظام البشير المعزول، فيما كانت قيادات أخرى في الدعم السريع تتحدي في وسائل التواصل الاجتماعي الجيش السوداني أن يصدر بيانا رسميا يعلن فيه هذا الخبر..
الجيش أصدر بيانا مقتضبا أعلن فيه التحام الجيوش كواحدة من الخطوات المهمة والمرسومة وهنا يعلق مصدر عسكري مطلع في الجيش السوداني على أن بيان الناطق الرسمي المختصر والمكتوب هدف إلى إخلاء مساحات لبيان أوسع وخطاب شامل من المقرر أن يلقيه رئيس مجلس السيادة والقائد العام من مكتبه في القيادة العامة متى ما اكتملت الترتيبات الأمنية.
عودة للوراء.. كيف تم حصار القيادة العامة؟
عقب اندلاع الحرب في منتصف أبريل 2023 وفي نهار رمضاني ارتفعت فيه درجات الحرارة حتى بحث قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو الشهير باسم حميدتي عن فتوى دينية تبيح لرجاله الإفطار،.في هذا الوقت كانت قوات الدعم السريع تهاجم مقر القيادة العامة للجيش بضراوة باحثة عن راس القائد العام الجنرال عبد الفتاح البرهان أو احتلال مقر قيادة الجيش لإعلان ترتيبات سياسية عبر انقلاب خاطف وسريع.
لكن ذلك لم يتحقق بفضل استبسال قادة الحرس الجمهوري والذي قتل عدد من ضباطه في ذاك اليوم. وهنا يقول ضابط متقاعد للجزيرة نت إن السور الخرصاني الذي شيده البرهان حول مقر الجيش كان عائقا اضافيا منع قوات الدعم السريع من اقتحام القيادة العامة عبر كثافة النيران وكثرة سيارات الدفع الرباعي المزودة بمضادات ارضية وجوية ومدافع متعددة. .لكن منذ ذلك اليوم والأيام التي تليه أطبقت قوات الدعم السريع حصارا محكما حول قيادة الجيش السوداني..لم يكسر ذلك إلا خروج البرهان نفسه في ٢٤ اغسطس ٢٠٢٣ عبر عملية معقدة تمت في جنح الظلام يرفض الجيش حتى الآن الكشف عن تفاصيلها.
خيارات فك الحصار.
طبقا لمصادر عسكرية تحدثت للجزيرة نت أن قيادة الجيش السوداني وضعت عدد من الخطط لفك حصار القيادة العامة والذي كان هاجسا مؤرقا ..لدرجة استخدام الطائرات المسيرة في توصيل الدواء للمحاصرين، أما عملية الامداد بالغذاء فكانت تتم عبر الإسقاط الجوي..
هنا يقول اللواء المتقاعد معتصم الحسن ان ذلك الوضع كان يمثل ايضاً ضغطا نفسيا على قيادة الجيش السوداني كما يصعب من عمليات استبدال القوات المنهكة فضلا عن توفير الرعاية الطبية المتكاملة للقوة الكبيرة الموجودة في مقر القيادة العامة للجيش السوداني والتي كانت تعمل في ظروف بالغة التعقيد.
وفقا لمصدر عسكري آخر تحدث للجزيرة نت كانت الخطة الأولى أن يتم فك حصار القيادة العامة عبر استخدام جسر شمبات على النيل شمال الخرطوم بحري، وشق احياء مدينة بحري من الناحية الغربية وصولا لجسر المك نمر على النيل الأزرق ثم عبور وسط الخرطوم للوصول للقيادة العامة في الناحية الشرقية وكان ذلك هو أقصر وأفضل الطرق للوصول للقيادة العامة من مدينة بحري
لكن هذه الخطة تمت تنحيتها جانبا عقب تدمير اجزاء من جسر شمبات جعلته غير صالح للعبور بعد عملية عسكرية في نوفمبر ٢٠٢٣ تبادل الجيش والدعم السريع إنكارها مع اصرار كل طرف على أن الأخر قد فعلها. هنا كانت على الطاولة خطتان بعد استبعاد الأولى، كانت الخطة الثانية أن يتم الوصول إلى القيادة العامة عبر جسر الإنقاذ على النيل الأزرق الرابط بين ام درمان والخرطوم وبالفعل وصلت طلائع هذه القوة في سبتمبر الماضي إلى الجهة الشرقية من الجسر بالخرطوم في عملية أوسع استهدفت الاستحواذ على عدد من الجسور الرئيسة في الخرطوم، كان من بينها جسر الإنقاذ وتقدمت هذه القوة حتى وصلت لاستاد الخرطوم غربي المدينة، ثم انكمشت لتجعل دفاعاتها الأمامية في فندق هيلتون.
هنا يقول مصدر ميداني للجزيرة نت إن المباني العالية ووجود قناصين للدعم السريع ابطأ من حركة الجيش و افسح مساحة للخطة الثالثة والتي تستند على الحركة من جسر الحلفاية على النيل شمالي الرابط بين ام درمان والخرطوم بحري بقوة قادمة من قاعدة وادي سيدنا شمالي أم درمان تلتحم بقوات سلاح الأسلحة بالكدرو ثم تمضي جنوبا للاقتران بقوات سلاح الإشارة في بحري المرتبطة بالقيادة العامة عبر جسر النيل الأزرق المجاور لجامعة الخرطوم وهو ما حدث مساء أمس .
الترتيبات النهائية البرهان مر من هنا..
وقف رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني عبد الفتاح البرهان على الخطط النهائية لفك الحصار عن القيادة العامة وانخرط في اجتماعات مكثفة مع اركان حربه في وادي سيدنا ثم زار المتحركات العسكرية في منطقة الكدرو وكان من المفترض ان يبقى طوال الأسبوع الماضي بأم درمان إلا ان مشاغل إدارة الدولة وإجازة الموازنة السنوية جعلته يعود لبورت سودان حيث مقر الحكومة المؤقت.
اللحظات الأخيرة.
وطبقا لمصادر مقربة لقائد الجيش عاد البرهان لأم درمان فجر امس الجمعة ليؤذن ببداية العملية وظل متواجدا في محيط المنطقة حيث تحرك رفقة عضو مجلس السيادة ومساعد القائد العام الفريق ياسر العطا مفتقدا بعض القوات المتقدمة.. ثم أدى صلاة الجمعة دون سابق تخطيط ببلدة الشيخ الكباشي في شمال الخرطوم.
وهنا يقول الوزير السابق عثمان الكباشي سليل الأسرة الصوفية ان أهل المنطقة فوجئوا بالزيارة وخرج الناس بشكل عفوي لاستقبال القائد العام والذي كان في عجلة حيث غادر البلدة عقب صلاة الجمعة مباشرة، وقد أكدت مصادر للجزيرة نت أن البرهان ومساعده الجنرال ياسر العطا زارا الخطوط الأمامية في منطقة الجيلي التي تقع فيها أكبر مصفاة للنفط في البلاد وكذلك قاعدة الكدرو العسكرية، ثم كان البرهان ومساعده ياسر العطا حضورا حول المسرح حينما تم رسميا إعلان اقتران الجيوش في جنوب الخرطوم بحري.
مفاضلة بين هدفين:
بحسب مصدرين عسكريين تحدثا للجزيرة نت إن القيادة العسكرية كانت تفاضل بين دخول مصفاة الخرطوم أو فك الحصار عن القيادة العامة للجيش السوداني في هذا اليوم. ورجحت كفة عملية فك حصار القيادة اولاً باعتبار أن مردودها العسكري والسياسي أكبر بل ستسهم في تسهيل عملية السيطرة على المصفاة بسبب ارتفاع الروح المعنوية للجيش والذي ظل في حالة انتصارات متتالية منذ سبتمبر الماضي وفقا للمحل الاستراتيجي الدكتور أسامة عيدروس، و هو ما تحقق بالفعل إذ انسحبت قوات الدعم السريع من المصفاة بعيد الإعلان عن فك حصار القيادة وفقا لمصدر عسكري رفيع تحدث للجزيرة مضيفا أن الجيش كان حذرا في دخول المصفاة والذي تم بشكل كامل صباح الجمعة.
مسارات متعددة وهدف واحد ..
بدأت عملية فك الحصار عن القيادة العامة بعد عبور الجيش السوداني لجسر الحلفاية في سبتمبر الماضي وقال مصدر أمني انه تم تحديد ثلاث مسارات غربي يسير بموازاة نهر النيل وقد اقترب هذا المسار من الوصول لجسر شمبات من ناحية بحري ومسار شرقي يشق منطقة كافوري وكوبر للوصول لجسر القوات المسلحة الرابط بين مدينة الخرطوم والخرطوم بحري .. فيما المسار الثالث وهو المسار الأوسط يستخدم شارع الشهيد محمد هاشم مطر ( الإنقاذ سابقا) ويشق مناطق شمبات والصافية ليصل لسلاح الإشارة في جنوب الخرطوم بحري ومن بعدها يستخدم جسر النيل الأزرق للوصول للقيادة العامة.
المسار الأوسط حقق تقدما اسرع من غيره .. منذ يوم الثلاثاء الماضي ووفقا لمصدر عسكري في الجيش السوداني نشط هذا المسار حيث ان قوة من قوات العمل الخاص بالجيش السوداني استطاعت ان تداهم فجرا عدد سبع ارتكازات لقوات الدعم السريع وبعد هذه العملية الخاطفة باتت قوات الجيش السوداني القادمة من سلاح الإشارة في الناحية الجنوبية من محطة سكك حديد الخرطوم بحري.
وهنا لابد من الإشارة لجهد كبير قامت به قوات تتبع لجهاز المخابرات كانت صامدة في مقرها بموقف شندي القديم شمال سلاح الإشارة فيما تقدمت القوات القادمة من الناحية الشمالية وتوقفت قبل مساكن إقامة الطالبات المسماة “داخلية إبراهيم مالك” حيث واجهت هنا قوة صلبة من قوات الدعم السريع كانت متحصنة في هذا المبني العالي وفقا لذات المصدر الميداني .. يوم الخميس الماضي تمكنت قوات الجيش السوداني من السيطرة على مبني الطالبات وباتت على مقربة من القوى الأخرى المتواجدة في نواحي محطة السكة حديد.
ما قبل الالتحام ..!!
باتت المسافة الفاصلة بين قوات الجيش السوداني القادمة من الشمال والجنوب نحو اثنين كيلومترا ونصف..وهنا يضيف المصدر الميداني الذي تحدث للجزيرة نت انه تم ربط الاتصال اللاسلكي بين هذه القوة المتقدمة من ام درمان ومقر سلاح الإشارة بل كنا نسمع صوت ذخيرتهم حينما يلتحمون مع العدو وفقا لتعبير المصدر تم تحديد ساعة الصفر بعيد صلاة الجمعة يشرح يوسف عبد المنان الصحفي المقرب من الجيش السوداني للجزيرة نت هذه اللحظات.. اختار الجيش طرق غير رئيسية للوصل بين قواته تفاديا لقناصة الدعم السريع كما استخدم تكتيكات خادعة.. في نحو الخامسة مساء تم الالتحام وأعلن عنه عبر مصادر عسكرية في الجيش السوداني ثم لاحقا بات خبرا رسميا.
ثم ماذا ..
ماذا بعد ان تحقق الالتحام بين قوات الجيش السوداني اللواء معتصم الحسن يقول ان ذلك يعني ان الجيش السوداني بات يملك سلسلة إمداد تبدأ من بورت سودان وتمتد حتى مدينة حلفا في أقصى شمال السودان. ويشير الحسن ان الالتحام يعني بداية المعركة الأخيرة حيث يتعين على قوات الجيش توسيع مناطق سيطرتها شرقا وغربا داخل مدينة الخرطوم بحري وهذا يسهم في تمزيق وتفكيك جسد ما تبقى من قوات الدعم السريع والتي أصبحت الآن امام خيارات صعبة في مدينة بحري لا تتجاوز الهلاك أو الاستسلام..
هنا يشرح المقدم طيار متقاعد والصحفي علي ميرغني هذه الخطوة بشكل عام بنظرية راس الجسر حيث تبدأ العملية العسكرية بطرد العدو من منطقة صغيرة ثم تتوسع دائرة السيطرة ويشير المقدم ميرغني ان تلاحم المتحركات العسكرية الأخير يعني النجاح في صناعة راس الجسر ثم يكمن التحدي في توسيع هذا الأمر وادخال قوات إضافية توطئة للسيطرة على كل الخرطوم.
لكن الصحفي حافظ كبير المقرب من قوات الدعم السريع ينفي كل ذلك و يقول ان قوات الدعم السريع متواجدة بالخرطوم بحري وستقاتل وفق استراتيجية عسكرية محددة سلفا ويضيف مصدر آخر في قوات الدعم السريع فضل حجب اسمه ان هذه تبدو المعركة الأخيرة وقد حشد الطرفان لهما كل ما في وسعهما لكن لقوات الدعم السريع مفاجآت وصفها بالمؤلمة وفي ولايات ظلت بعيدة عن نار الحرب وفقا لتعبيره. لكن أسامة عيدروس المتخصص في الدراسات الاستراتيجية له قول آخر بعد فك الحصار تحول المشهد لتجد قوات ما سماها بالمليشيا في الخرطوم نفسها محاصرة في جزر معزولة يسهل القضاء عليها ومن ثم تحرير كامل ولاية الخرطوم مما يعني فعليا تحويل المعركة بكاملها لغرب النيل. كل ما يحتاجه الجيش بعدها هو وصل خطوط امداده الى مدن الابيض وبابنوسة في كردفان ثم الى الفاشر في دارفور بعدها يكون من السهل عليه تطهير بقية مساحات دارفور المحتلة.
هل ثمة صوت غير البندقية؟
كيف سيؤثر تقدم الجيش السوداني وفكه الحصار عن قيادته العامة على مستقبل العملية السياسية في السودان.. الدكتور سيف عطا المنان الباحث والمحلل السياسي يرى في حديثه للجزيرة نت أن التقدم العسكري لن يجعل الجيش السوداني ميالا لخيارات التفاوض باعتباره متقدم ميدانيا ومسنود شعبيا ..
اللواء معتصم عبدالقادر يعتقد أن الجيش اختار مبكرا استراتيجية الحسم العسكري وان العمليات العسكرية ستمتد لتصل حتى دارفور حيث تقاتل الحركات المسلحة مع الجيش السوداني جنبا بجنب.. هنا يضيف الدكتور أسامة عيدروس من السابق لأوانه الحديث عن عملية سياسية قبل القضاء على التمرد وكسر شوكته ولكن لا يمكن اغفال ان المجلس السيادي ستتعزز سلطته وتوسع قاعدة الاعتراف الدولي به بعد تحرير الخرطوم.
وهنا يعتقد حافظ كبير الصحفي المقرب من الدعم السريع أن لا مجال قريب لمفاوضات سلمية بعد هذه التطورات العسكرية في الخرطوم والفاشر التي باتت اقرب لسيطرة الدعم السريع، على حد تعبيره .
وفقا لكثير من الخبراء ستضع معركة فك الحصار عن القيادة العامة والسيطرة على مصفاة الجيلي بصماتها على العملية العسكرية والسياسية في السودان، وان وصول الجيش السوداني مجددا لوسط الخرطوم حيث من المتوقع أن يحتدم الصراع حول القصر الرئاسي ومعظم الوزارات والمؤسسات الحكومية، حيث كفة الجيش هي الأرجح في هذه المعادلة .
نقلا عن ‘الجزيرة نت”