كان شاعراً حين سكن قلبي

الصادق إسماعيل

محمد المكي إبراهيم، الأستاذ الشاعر. ورغم قصائده الكثيرة والجميلة، إلا أنّه حينما سألني: ما هي أجمل قصيدة أعجبتني من قصائده، أجبته، والإجابة كانت تنتظر هذا السؤال منذ أن تعرّفت عليه زميلاً في العمل، وفي السكن. بعدها جاراً لي في مدينة (مارينا) بكالفورنيا.
ومع ذلك، ترددت، فالشاعر يعتبر كل قصائده جميلة، أو هكذا خُيَّلَ لي، إذاً لم السؤال؟ هل هو فخ نصبه لي، أم أنه فعلاً يريدني أن أقول. فكرت أن هذا السؤال ليس دبلوماسياً، ومحمد المكي هو مجموعة شخصيات للذين يقتربون منه، ولكن يظل الشاعر هو الشخصية الطاغية، والدبلوماسي يتوارى عن الأنظار عندما تعرفه عن قرب.
قلت له: *ربما الدوار*!
وابتدأت في قراءتها دون أن أستأذنه أو يسألني ذلك:
*كان ملاكاً حين شق صدري*
غاسلاً بلؤلؤ الندى فؤادي
بلؤلؤ الندى
والتموجات في الصدى
فؤادي
حين اصطفاني شاهداً
وولداً ووالدا
وخاطراً فوق محال الوعد والمعاد
وكان خائناً وملحدا
لمّا مضى
مخلفاً صدري بالأضماد
خلّفني للشبق الفادح والسهاد
والروعة والبهاء
توّجني برغوة الشمس وبالعبير والغضب
بخصل من اللهب
وحلل من الضياء
توجني حتى غدوت في جمال الامراء
وفي أواخر المساء
جرّدني ومازال نائماً من الخصل
جرّدني حتى من الغطاء
تباص له
أسلمني لقسوة الشتاء.
كان قوياً حين شالني إلى السماء صاهلاً
مندفعاً إلى السدوم الهائلة
مطوفاً حتى لقد أشهدني تراجع البصر
وجهشة الضوء
وأهداب الملائك المبللات بالتقوى وبالمطر
حتى انتشيت بالتنهد الهاديء والعميق
من رئات البحر والجزر
وعندما خفقت كالنجمة خارج التاريخ والمكان
انسحب الجناح من تحتي وأجفل الحصان
ورحت أهوي خارج التاريخ والمكان
أهوي أنا في لا نهايات بلا قرار أهوي؟!
ومن درى
لربما الصعود ما أرى
وربما الدوار
يحملني الخيال إلى سواحل البحر
الى الشواطيء المضرّجات بالشهوة
والوحشة
والبهار
والجزر المتكئات في ذراع الشمس كالنساء
عندئذ ينكفيء البحر على السماء المقمرة
وتقفز الينابيع من الغصون المزهرة
وتجدل الرياح اكليلاً من اللحوف
فارتخي على حبيبات من الصفاء
طفاوة من كسل الموج
ومن هشاشة البكاء
ومزقاً من التدافع الصادح والدعاء
وعندما تبدأ روحي ذلك التسلل الناخل
من مغاور الجسد،
يشرق وجهك كالصابح عبر الموج والزبد
يشرق كالغفران، كالصحو، كدمعة الندم
يشرق أزهى منه لم ير
ولم يزوق مقلتي أحد
يشرق تنجاب التهاويل ويسطع النهار
يشرق ينتهي ويبتديء الدوار
ويلي أنا من الدوار
ويلي أنا من ذلك الأزهى من النهار
من ذلك الناخر تاريخي، وحاميه من البوار
من ذلك اليقتل واليحيي
ويصنع الدوار
الله يا نداوة الذكرى ويا عذوبة المسيل
يا نهر إمكانٍ ووعد مستحيل
يا دفة الفرحة بالجناح
يا ألماً مقطراً طويل
الى متى
قل لي إلى متى الدوار؟
▪️ضحك، رحمه الله، وقال لي: متى حفظتها؟
تذكرت ذاك اليوم بوضوح، حين وقع نظري عليها منسوخة بخط جميل في ورقة موضوعة في وسط كتاب استلفته من أحد الأصدقاء، لم أكن أعرف أنها له، سمعت قصائده المغناة، ورأيت قبلها ديوانه *أمتي* في منتصف مكتبة أبي، لم أعره كثير اهتمام حينذاك.
كانت افتتاحيتها سلسة، والموسيقى داخلها تتراقص حول الكلمات، وتشكل خلفية لا يمكن أن تتوفر لقصيدة عادية.
سأسأل عنها الشاعر حسن عثمان الحسن، حينما قرأتها على مسامعه ذات نهار من نهارات الخرطوم كنت أتسكع معه، فقال لي إنها قصيدة محمد المكي، واندهش أني أحفظها ولا أعرف قائلها.
لم تنل مني قصيدة هذا الحب بعدها، إلا حينما سمعت الفيتوري في لقاء في قناة لبنانية مع صعود التلفزيونات الأرضية الى فضاء الله الواسع.
*شَحُبَتْ روحي، صارت شفقاً*.
وقعت في حبها فوراً. وسيأتي الفيتوري إلى الخرطوم، بدعوة لمهرجان ثقافي ويتم تكريمه، وعلى هامش المهرجان ستلتقيه ليلى المغربي، ملكة المقدمات الرقيقة، قالت كلماتها التي ضاعت حروفها وسط سحر صوتها المحبوب، وسألته سؤالها الأول، فلم يأبه به، وأجابها شعراً:
*شَحُبَتْ روحي، صارت شفقاً*.
وأكمل القصيدة!
قال لي الشاعر عبد الله الزين، إن الفيتوري سُئل عن أفضل الشعراء إلقاءاً لقصائده، فقال: (لولا هذه البحة، لقلت أنا). رحم الله الفيتوري. ورحم الله *مكي* كما كانت تناديه زوجته ورفيقة عمره.
▪️قررنا في مدينتنا أن نكرّمه، كانت ليلة جميلة. قالت لنا أسرته، اتركوا لنا القاعة سننظمها، وحينما دخلنا المساء كانت القاعة نفسها قصيدة جميلة، كل شيء موضوع في مكانه بالضبط، بنفس أناقة كلمات قصائده.
تكلم هو وتبارى أبناءه في كلمات لطيفة، وشرحوا كيف كانوا يقتبسون عناوين دواوينه في البيت، فإذا ضاع شيء وسأل أحدهم عنه أجابوه “يختبيء ذاك الشيء في الدولاب”.!
خاطب الحفل بكلمة رصينة، خدنه المرحوم كمال الجزولي، فأوفاه حقه ليلتها.
▪️ حكى لي أستاذنا محمد المكي مرّة بعد زيارة له للخرطوم، أن المرحوم كمال أخذه لبيتٍ في أمدرمان، وجاء معهم فنان يغني بعود، ولمّا انفض السامرـ أخذه كمال الجزولي بالسيارة لمنزله.
قال لي، أن كمال أوقف السيارة فجأة ونزل، ونسائم الفجر كسلى تنتظر شروق الشمس لتعاود نومها، استنشق كمال ما شاء من الهواء، وعاد لمحمد المكي، “يا خي أنا بحب البلد دي عديل كدا”. حدثني محمد المكي بمقولة كمال هذه، وأردف “يا حليل البلد البِتْحِبْ وتِنْحَبْ”.
▪️حينما زارنا أبو عركي البخيت أخذته إلى منزله، كان فرحاً به، بعدها حكى لي أنه لم يتخيل أن يجرؤ أحد على تلحين “الخلاسية” ولكن أبو عركي فعلها.
سألته عن هذه القصيدة، فقال لي كنا في حيرة بين العرب والأفارقة. سألته: “وهل زالت الحيرة الآن؟” قال لي “ما فضل لينا حاجة إلا نكون سودانيين وبس.
▪️في يوم التكريم ذاك، كانت هناك طاولة وضعت فيها، بأناقة، دواوينه وكتبه بنسخها الأولى، ليست للّمس ولا للتصفح، مررت عليها فكان فيها رسالته للدكتوراة، لم أكن اعرف هذه المعلومة قبل ذلك اليوم.
قلت في سري: “هذا حسن، فأنا أناديه مذ عرفته دوماً بالأستاذ، وأضمرت في نفسي ما حدثني به منصور خالد، أن اسم المتنبيء قلما يرد على لسان الطيب صالح، فقد كان يشير إليه دوماً بالأستاذ”.
▪️أستاذنا محمد المكي كان شاعراً بحق وحقيق، ويستحق اللقب مني، كما استحقه الشاعر المتنبيء.
أهداني زجاجة عطرٍ في علبة أنيقة، كان يوم زفافي، وصل باكراً، ولم يغادر حتى نهاية الحفل، وقفت معه عند مدخل القاعة، حينما أعطاني ابن خالتي التلفون، وكان المتصل والدي رحمه الله. قلت لوالدي: معي الأستاذ محمد المكي إبراهيم، فالتفت محمد المكي وقال لي “دعني أبارك له”، أعطيته التلفون، فتذاكرا “بارا” وربما ليمونها أيضاً، وسمعت محمد المكي يذكر عبد الله جلاب والشاعر عثمان خالد، وتعارفا.
▪️حكى لي والدي بعدها، أنهما تقابلا أيام المراهقة، وأبي درس في بارا وود المكي من تلك النواحي.
▪️اكتشفت قبل يومين، أن زجاجة العطر ما زالت موجودة، وبها بقية!
أنا لا استعمل العطور إلا نادراً ومؤخراً جداً، ودوماً أفضل مزيلات العرق.
▪️سنفتقد لطافته وبشاشته وحضوره الأنيق في مجتمعنا الصغير هنا في مارينا، وسيبقى شعره خالداً، يهزم الموت كغيره من الفنون، وينتظر من يُبحر في مياهه ويخرج بالدرر، كما فعل (ابن جني) مع شعر المتنبيء.
▪️اللهم ارحم عبدك أستاذنا وشاعرنا محمد المكي إبراهيم.
وإنا لله وإنا إليه راجعون

Exit mobile version