قطر : الدولة المحورية ودورها في الاستقرار الإقليمي والدولي

بقلم: أمية يوسف حسن أبوفداية
باحث وخبير استراتيجي مختص في شؤون القرن الإفريقي

مقدمة
منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وتحديدًا منذ تولي الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقاليد الحكم في قطر عام 1995، بدأت الدوحة مسارًا سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا مختلفًا عن محيطها الخليجي. لم تكن التحولات مجرد قرارات عابرة، بل اتخذت شكلًا استراتيجيًا مدروسًا رسّخ من حضور قطر كلاعب محوري في المنطقة، وداعم أساسي للاستقرار العالمي، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط التي تعد من أكثر المناطق حساسيةً واضطرابًا في العالم.
اعتمدت قطر في صعودها على مجموعة من الأدوات الذكية، أبرزها: الإعلام، والدبلوماسية متعددة المسارات، والتحالفات الدولية، والاستثمارات الاقتصادية الكبرى، إضافة إلى الدعم الثابت لقضايا الشعوب المستضعفة، وتبنّي رؤية معتدلة للإسلام السياسي، ما جعلها هدفًا لتناقضات وتحديات كبرى، لكنها في الوقت ذاته فرضت نفسها كقوة ناعمة قادرة على التأثير وصناعة التوازنات.

إعلام مؤثر ونفوذ شعبي : قناة الجزيرة نموذجًا
لا يمكن فهم الدور القطري دون الوقوف أمام النموذج الإعلامي الفريد الذي أسسته قناة الجزيرة منذ انطلاقتها عام 1996. فهذه القناة لم تكن مجرد منصة إخبارية، بل تحولت إلى “فاعل سياسي” بامتياز في كثير من القضايا الإقليمية والدولية، مكّنت قطر من التأثير في الرأي العام العربي والدولي على حد سواء.
قدّمت “الجزيرة” نموذجًا مختلفًا للإعلام العربي؛ حرّرت سقف التعبير، وكسرت احتكار الصوت الرسمي، وسلّطت الضوء على قضايا الشعوب وحركات التحرر، وكانت في كثير من الأحيان صوتًا للفئات المهمّشة والمقهورة. هذه القوة الإعلامية لم تكن معزولة عن التوجه العام للسياسة القطرية، بل كانت ذراعًا ناعمة تعبّر عن الرؤية السياسية للدوحة.

البنية التحتية والمكانة الاقتصادية: الطيران والاستثمار
عززت قطر من موقعها الإقليمي والدولي من خلال أدوات اقتصادية فاعلة، في مقدمتها الخطوط الجوية القطرية، التي حصدت لسنوات متتالية جوائز أفضل شركة طيران في العالم، بفضل جودة خدماتها وشبكة وجهاتها العالمية.

إضافة إلى ذلك، استخدمت الدوحة فوائضها المالية النفطية والغازية بشكل استراتيجي، فاستثمرت في كبرى الشركات الغربية والأمريكية، وامتلكت أصولًا عقارية في أهم العواصم العالمية مثل لندن وباريس ونيويورك، وأقامت شراكات اقتصادية نوعية جعلت من الدولة الصغيرة جغرافيًا كيانًا كبيرًا اقتصاديًا.
كما طوّرت علاقات استثمارية واسعة في مجالات الرياضة، التعليم، التكنولوجيا، والعقارات، ما منحها نفوذًا غير مباشر في مراكز اتخاذ القرار العالمية.

التحالفات الاستراتيجية: تركيا نموذجًا
من أبرز معالم السياسة القطرية الخارجية، بناء تحالفات استراتيجية فاعلة، تتجاوز الأبعاد التقليدية للتعاون. ويُعد التحالف مع تركيا نموذجًا متقدمًا في هذا الصدد، حيث تطورت العلاقة لتشمل الجوانب العسكرية والدفاعية، بعد توقيع اتفاقيات تعاون استراتيجي، أدّت إلى إنشاء قاعدة عسكرية تركية في قطر، ما وفّر مظلة أمنية إضافية للدوحة في وجه التهديدات الإقليمية.
هذا التحالف لم يكن فقط مع أنقرة، بل انسحب على دول إسلامية أخرى، بما في ذلك شراكة استراتيجية مع حكومة الرئيس محمد مرسي في مصر عام 2012، قبل أن تنهار تلك التجربة بانقلاب 2013، لكنها أظهرت بوضوح توجه قطر لدعم الإسلام السياسي المعتدل كبديل حضاري وسياسي عن الأنظمة القمعية والعسكرية في العالم العربي.

قاعدة العديد: العمق العسكري الأمريكي في الخليج
في الوقت ذاته، لم تتخلّ قطر عن تحالفها التقليدي مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل استضافت على أراضيها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، وهي قاعدة العديد، التي لعبت دورًا محوريًا في العمليات الأمريكية في العراق وأفغانستان وسوريا.
هذا التوازن بين التحالفات الإسلامية والتحالفات الغربية، خصوصًا مع أمريكا، مثّل أحد أسرار النجاح القطري في تجنب التورط في صراعات مباشرة، وفي بناء صورة “الوسيط الإيجابي” الذي يتحدث مع الجميع ولا يستثني أحدًا.

قطر وسياسة الوساطة: السلام بديلًا عن الصراع
استثمرت قطر هذا الموقع الاستراتيجي لتلعب دورًا فريدًا في الوساطة الدولية، وهو دور نادر في منطقة تتّسم بالصراعات المزمنة.
من أبرز الأمثلة على ذلك:
المفاوضات بين حركة طالبان والولايات المتحدة، التي أفضت إلى اتفاق الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021، حيث لعبت الدوحة دور الحاضنة والضامنة للطرفين.
المصالحة بين حركات دارفور المسلحة والنظام السوداني السابق بقيادة البشير، حيث استضافت الدوحة مفاوضات السلام، وأسهمت في توقيع اتفاق الدوحة للسلام فى 2011.
المفاوضات بين حركة حماس وإسرائيل، والتي تجددت في أكثر من مرحلة، كانت قطر فيها وسيطًا نزيهًا وفاعلًا، سواء على المستوى الإنساني أو السياسي.
المصالحة بين الحكومة والمعارضة في الكونغو الديمقراطية فى 2025، وهي إحدى أحدث الوساطات القطرية التي تعكس توسع الدور الدبلوماسي القطري خارج النطاق العربي.

العداء الإقليمي: من الحصار إلى محاولات العزل
لكن هذا الدور لم يكن محل ترحيب من كل الأطراف. فقد أثار صعود قطر حفيظة عدد من الدول العربية، خصوصًا الخليجية، ما أدى إلى حصار دبلوماسي واقتصادي في يونيو 2017، قادته السعودية والإمارات والبحرين ومصر، وهي أول ظاهرة حصار لدولة خليجية من أشقائها في التاريخ الحديث.
رغم الحصار، لم تتراجع الدوحة عن سياساتها، بل استثمرت في تعميق تحالفاتها، واعتمدت سياسة الاعتماد على الذات في الغذاء والطاقة والدواء، ما جعلها أكثر قوة وانفتاحًا على تنويع شركائها الدوليين.
العداء لم يتوقف عند ذلك، فقد تم مؤخرًا الحديث عن تنسيق إسرائيلي – أمريكي لهجمات تستهدف مصالح قطر الاستراتيجية فى سبتمبر 2025، ما اعتُبر تحولًا خطيرًا في التعامل مع الدوحة، سيجبرها على إعادة تقييم أولوياتها وتحالفاتها الاستراتيجية.

التحولات المستقبلية: رؤية استراتيجية لمواجهة التحديات
في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، تجد قطر نفسها اليوم أمام لحظة استراتيجية فارقة. فالدروس المستفادة من الحصار، والهجوم الإعلامي والسياسي الإسرائيلي، تفرض على صانع القرار القطري مراجعة وتحسين أدوات التأثير والدفاع، وهو ما يمكن أن يتم عبر عدد من المحاور:
1. تعزيز العلاقة مع تركيا وروسيا والصين باتفاقيات دفاع مشترك .
تدرك قطر أن الرهان الحصري على واشنطن لم يعد مجديًا، خصوصًا مع تغير الإدارات الأمريكية ومواقفها المتقلبة، لذلك فإن تنويع الشراكات الدفاعية مع قوى كبرى كتركيا وروسيا والصين بات ضرورة لحماية السيادة القطرية.
2. الانضمام إلى مجموعة “بريكس”
بعد انضمام دول عربية مؤخرًا إلى تكتل “البريكس”، مثل السعودية والإمارات ومصر، بات من المنطقي أن تسعى قطر أيضًا إلى الدخول في هذا النادي الاقتصادي العالمي، لما له من قدرة على تقليل الاعتماد على المؤسسات الغربية، وبناء نظام مالي وتجاري بديل وأكثر توازنًا.
3. زيادة الاستثمارات في دول الجنوب المستقرة الدوحة تتجه بذكاء لتعزيز وجودها الاقتصادي في دول ذات وزن صاعد مثل البرازيل، جنوب إفريقيا، ماليزيا،وتركيا، والجزائر وهي دول توفر بيئة مستقرة وعلاقات متوازنة تساهم في حماية الاستثمارات القطرية من الاضطرابات السياسية.
4. الاستمرار في دعم القضايا العادلة لم تتخلّ قطر يومًا عن دعمها للشعوب المستضعفة، سواء في فلسطين، أو الروهينجا، أو السودان، أو اليمن، أو ليبيا، أو أفغانستان. هذا الدعم يُعد ركيزة أخلاقية للسياسة الخارجية القطرية، ويمنحها شرعية شعبية في العالم الإسلامي لا تتمتع بها الكثير من الدول.
5. التمسك بدعم التيار الإسلامي السني المعتدل رغم ما أثاره هذا الموقف من حساسية بعض دول المنطقة .

Exit mobile version