إثر وخزةٍ غير مُتقَنةٍ لحقنة تطعيم السحائي على مؤخرتي، أصبحتُ أعرجًا منذ طفولتي الباكرة، هذه العاهة المستديمة حرمتني أن أحقّق حلمي بالالتحاق جنديًا بالجيش أو بالشرطة مثل بقية أندادي، لم يكن لدي كثير من الخيارات العملية المتاحة بسبب تواضع مستواي التعليمي، استوعبني المستشفى الحكومي عامل نظافة في شرخ شبابي، فرحتي كانت عظيمةً بتبوُّء هذه الوظيفة بعد فترة العطالة المملة والقاتلة، والتي بسببها كدت أن انجرف إلى عالم الجريمة أو أكون خريج سجون، لكن جذبني الخير إلى الاتجاه الصحيح، أعمل بجدٍّ وإخلاص، لا أجد حرجًا في نظافة الدماء المتجلطة والصديد وقيء المرضى، والحمامات المُتَّسخة بالبراز والبول من إهمال الأطفال والعجزة المسنين، ثم فتح المنهولات والمجاري وجمع الأوساخ، ذو همة ونشاطٍ عاليين، لا يُكبِّل يدي الكسل، طويل البال روحي لا تعرف الملل ولا أعرف للتسكع طريقًا، أحُبّ الناس والمرح مع الرقص والغناء بلغتي الأم، كل الموظفين يعرفونني جيدًا، لكنهم غالبًا لا ينظرون إلى جانب إنسانيَّتي المضيئة؛
أفكر في أطفال أختي بأن أجلبهم إلى المدينة، لم يكن لدي ثمن تذكرتين لأبعث إليهما.. لا أملك أكثر من قوت يومي، بينما كنت سارحًا في محنتي، أتى دكتور هيثم مثل الإلهام.. انتشلني من إحباطي وتكفَّل بثمن التذكرتين.
من منطقة الحرب حضر الطفل (بمبو) برفقة أحد أقربائي إلى المدينة، بينما اختارت أخته البقاء مع عمتها، فور أن رأيت ابن أختي اندفعت نحوه بحماسٍ وشوق، بكيت بحرقة، لكنَّه ظلَّ جامدًا كحجر! لم يحرِّكه شغفي ولا دموعي الغزيرة، طفلٌ بائس الوجه صارمُ الملامح صاحبُ عيونٍ ضيِّقة، كانت الحرب اللعينة قد سرقت منه طفولته البريئة؛ لا يُمكن أن يشتكي وهو جائع، يحب العنف اللفظي والجسدي. عزمت معاملته باستثناء وبعاطفة جياشة، هو يتيم الأبوين، أحب أن أدافع عنه، أجد له العذر لحماقاته المتكررة.
في عامه الأول، بمبو وجد صعوبةً بالغة في إتقان اللغة العربية بينما يجيد التحدث بلغته الأم بطلاقة وسلاسة، تلتبس عليه المعاني فيخلق عداوةً من العدم مع الجميع، عمِل (كمساري) لبعض الوقت، لكن بفعل أسلوبه الجاف مع الركاب طُرِد من العمل ثم عمل ماسحًا للأحذية، ثم بِحَثٍّ من دكتور هيثم، أوصاني أن أدخله المدرسة ليتعلم، فأدخلته المدرسة.
في السنة الأولى من العام الدراسي، اكتشفت ضعفه اللا محدود في التحصيل… درجاته في كل المواد مُعنوَنة بشكلٍ دائري بالقلم الأحمر، في العام الثاني والثالث تحسّن مستواه قليلًا.
لفت انتباهي دكتور هيثم كعادته يسأل عن أحوالي رغم الفارق التعليمي والاجتماعي الشاسعين؛ هو من أعز أصدقائي، سألني عن الطفل بمبو، أخبرته أنه ينتظر أن يُكمِل المرحلة الابتدائية ثم يلتحق بالجيش سمعت حديثه القيم، ثم صرت أشجِّع بمبو بكل حماس.
في أواخر العام الرابع استلمتُ خطاب استدعاءٍ من المدرسة بخصوص ابن أختي، انتابني حرج بالغ بسبب عصبيته الزائدة.
ذهبت إلى المدرسة مُكِبًّا على وجهي.. فور أن دخلت مكتب مدير المدرسة، ولدهشتي البالغة، استقبلني المدير ببشاشة على غير العادة مما خفف من شكِّي ورهبتي، بعد الضيافة عرج إلى الموضوع، فاجأني بِتهنِئته لي، تحصَّل بمبو على أعلى درجة في المدرسة بالعلامة الكاملة، وأردف وهو يبتسم: «هذه النتيجةُ ثمارُ مثابرتكم واجتهادكم». أكاد لا أصدِّق؛ أول مرة في حياتي أتذوَّق طعمًا للنجاح..
رجعت إلى مقر عملي مُنتشِيًا كأنِّي مولودٌ من جديد، أودُّ أن أُخبِر صديقي الدكتور هيثم؛ فهو الداعم الأول لهذا النجاح الباهر، أيامٌ وأنا أسأل عنه في كل المكاتب، لم أجد له أثرًا، هاتفه مُغلق، غاب عن المشهد من يوم إضراب الأطباء، دوَّنت عائلته المكلومة وأصدقاءه بلاغاتٍ عن اختفائه في ظروفٍ غامضة، اختفى صديقي من مسرح الحياة كشمعةٍ طفتها رياح المصائب إلى المجهول وظلام الضياع ولم نلتقي مرةً أخرى.
تركت العمل بفضل تفوُّق أبنائي في شتى الضروب، ظِلُّ النجاح مَنَحَنِي الراحة عِوضًا عمَّا سرقه الشقاء من تعب العمر، بفضل صديقي الغائب الحاضر.
الآن بمبو الفنان بريشته البديعة يصنعُ الجمال دهشةً، يمنح وجه المدينة ألقًا وفنًّا، بينما أنداده في مناطق الحرب أياديهم على زر البنادق تلطَّخت بالدماء، قتلٌ وانتهكاتٌ وسعت دائرة الحرب، لم يهبط رسول السلام ما زالت الحرب مستمرة لحين إشعارٍ آخر.