قراءة الوضع الدستوري لنظام الحكم والقضاء

د.عوض الحسن النور

تمهيد :
عن المقال الأول اهتم كثير من أهل القانون بالمحكمة الدستورية في السودان وتقييم تجربتها ومحاولة البعض بالعودة بها إلى الماضي كدائرة من دوائر المحكمة العليا وتمسك بعضهم بتبعيها لرئيس القضاء ونسي هؤلاء
أمر القضاء كله وحاجته للإصلاح ، ومدى أثر قيام كبار القضاة واهتمامهم بالعمل الإداري وتجاوزهم للعمل القضائي وتمسكهم بمركزية القضاء ، مما أثر سلبا على دقة الأحكام وسلامتها ونتج عن ذلك مراجعة أحكام المحكمة العليا مرة وأخرى وتدخلات المحكمة الدستورية في كثير منها ، وسعدت بتداخل أعضاء من المحكمة الدستورية مولانا العالم الجليل محمد محمود أبو قصيصة ومولانا العالم عبر الرحمن يعقوب أعضاء المحكمة الدستورية بسرد لتجربتهم . وكل ما سبق وتحديد المحكمة الدستورية وقيامها مستقلة أو كدائرة وإصلاح القضاء مسائل جميعها ووفقا للمنطق السليم مرتبط بتحديد نظام الحكم في الدولة هل مركزي أم فدرالي وعلى ضوء تشريعات ومؤتمر نظام الحكم وجدية الدولة في تحديد النظام ، وقد اقترح البعض ومنهم الدكتور درف ليس تعليقا على المقال بطلب لوزير العدل بتقديم مشروع قانون لتشكيل مجلس القضاء العالي وتشكيل المحكمة الدستورية وفي تقديري كما سياتي في الحديث عن الإصلاح وجود معوقات منها مسائل خص بها الوثيقة الدستورية مجلس السيادة ، كما ويسبق كل ذلك نهاية الحرب ، ويبدو أن ذلك هو ما دفع البعض بان العنوان والإصلاح مجرد خواطر وليست رؤى .
نظام الحكم منذ الاستقلال وحتى دستور 2005
شهد السودان منذ استقلاله في 1956 مسيرة سياسية معقدة ومتغيرة تميزت بتعاقب أنظمة حكم مختلفة تراوحت بين المركزية الشديدة واللامركزية ، وصولا إلى محاولات تطبيق الحكم الاتحادي والفيدرالي . ولقد شكلت هذه التحولات استجابة للتحديات الداخلية المتعددة بما في ذلك مسألة الدستور ومشكلة الجنوب ( التي أديت إلى انفصاله ) ومعضلة التنمية الشاملة بالإضافة إلى الصراعات السياسية ، أثرت بشكل مباشر على طبيعة نظام الحكم ، وتعكس الصراع المستمر حول شكل الدولة سواء كانت مركزية أو تسعى نحو اللامركزية والفيدرالية .
ففي 1972 تم توقيع اتفاق أديس أبابا للسلام والذي منح الجنوب منظفة حكم ذاتي وهي أول محاولة جدية لتطبيق اللامركزية في السودان وإن كانت محدودة بمنطقة الجنوب .
في 2005 تم توقيع اتفاقية نيفاشا وكانت هذه الاتفاقية نقطة تحول محورية نحو تبني نظام حكم فيدرالي حقيقي حيث نصت على تقاسم السلطة والثروة ، وحق تقرير المصير والقضاء ونتج عن ذلك دستور السودان لسنة 2005 والذي أولى اهتماما كبيرا لمبدأ اللامركزية والفيدرالية بتخصيص فصل كامل لنظام الحكم وبالإشارة الصريحة في الديباجة إلى الالتزام بإقامة نظام حكم لامركزي وديمقراطي تعددي ، ووجود باب كامل للولايات ومنطقة أبيي والذي يتناول تفاصيل أجهزة الولاية واختصاصاتها القضائية والتشريعية والتنفيذية ، ووجود جداول تحدد الاختصاصات القومية واختصاص حكومة جنوب السودان واختصاص الولايات والاختصاصات المشتركة مما يعكس بنية فدرالية واضحة .
الوثيقة الدستورية 2019
صدرت الوثيقة الدستورية 2019 ولم يتم الإشارة الصريحة أو فصول مخصصة لمبادئ اللامركزية او الفيدرالية وجاء بالمادة الرابعة منه في البند الأول حول طبيعة الدولة أنها لا مركزية ، ونص في المادة 9 على أجهزة الفترة الانتقالية دون تفصيل على مستوى الاتحادي والإقليمي والمحلي بسلطات يحددها القانون وإلى حين إعادة النظر في التقسيم الجغرافي وتوزيع السلطات يستمر العمل بالنظام القائم وكأنه أحيا دستور 2005 . وفي 2020 قام المشرع بتعديل الوثيقة الدستورية وحذف في المادة 1 عبارة لا مركزية واستبدلها بكلمة فدرالية وأيضا في البد 1 من المادة 9 وأضاف في البند ثانيا عبارة : على أن يكون قيام الأقاليم وهياكلها بعد قيام مؤتمر نظام الحكم .
وضمن أيضا اتفاقية جوبا 2020، وهي اتفاقية بين الحكومة الانتقالية وعدد من الحركات المسلحة وثيقة شاملة تهدف إلى معالجة جذور الصراع وتحقيق سلام مستدام ، ويبدو أن ما نالته الحركات في 2020 ولاستمرار الوثيقة الدستورية وتسميتها للفترة القادمة بفترة انتقالية تفسير الحركات للحقوق التي نالوها بالاستمرار مضاعفة ، وهو التمديد الثاني إذ نصت الاتفاقية 39 شهرا من تاريخ توقيع الاتفاق أيضا .
كما نصت الاتفاقية على توفير حكومة السودان 750 مليون دولا سنويا لمدة عشر سنوات لصندوق دعم سلام دارفور ، كما منحت الاتفاقية منظفتي جنوب كردفان والنيل الأزرق حكما ذاتيا ، كما خصصت الاتفاقية نسبة من الوظائف في الخدمة المدنية والسلطة القضائية والنيابة العامة والسفراء وتمثيل المرأة بل استثنت قادة الحركات من المادة 20 من الوثيقة الدستورية والتي تمنع شاغلي الوظائف الدستورية من الترشح للانتخابات التي تلي الفترة الانتقالية .
كما تم تعديل الوثيقة الدستورية هذا العام 2025 وقد وسعت التعديلات من صلاحيات مجلس السيادة في تعيين وإعفاء رئيس الوزراء وتعيين وإعفاء الولاة وحكام الأقاليم وتعيين رئيس القضاء ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية بما يكون وبمفهوم المخالفة الالتفات عن تشكيل مجلس القضاء العالي ، ووضع السياسة الخارجية كما ان أهم ما جاء بالتعديلات الحق في إصدار مراسيم مؤقتة لها قوة القانون .
ويمكن القول بان هناك نحو 25 دولة تطبق نظاما فدراليا منها أمثلة ناجحة كالولايات المتحدة الأمريكية ، ألمانيا سويسرا ماليزيا كما تطبق الإمارات العربية ذلك النظام ويمكن أن تكون أمثلة يسهل وفي ظل توفر المعرفة استلهام تجاربها ، وكان السودان ثاني دولة أفريقية تأخذ بالنظام الفدرالي منذ 1994 ، إذ يشكل التنوع العرقي والإثني والديني واللغوي والثقافي عنصر ثراء ، إلا أن غياب الإرادة السياسية والمركزية المتجذرة وهيمنة المركز والخلط بين مفهومي اللامركزية والفدرالية وضعف الموارد وعدم التوزيع العادل للثروة والسلطة وغياب التوافق الوطني ، وغياب الوعي كلها فاقمت من النزاعات والصراعات وضعف الكوادر باعد بين السودان والاستقرار المنشود . ويمكن تلخيص الأمر بان لنظام الحكم في السودان رحلة متذبذبة بين أقصى درجات المركزية بغض النظر عن طبيعة النظام عسكريا ام مدنيا ومحاولات خجولة ومتعثرة نحو اللامركزية والحكم الفيدرالي وإن مال الأمر الآن نحو التوجه على الفيدرالية ، وقد فرضت باسم الحكم الذاتي منطقتين باتفاقية جوبا 2020 ، وفي ظل غياب مجلس تشريعي وتأخر تشكيل مجلس الوزراء واستمرار الصراعات المسلحة بما يفرض على السيد رئيس الوزراء وحاجة الدولة الماسة لتشريعات عديدة وفي كافة المجالات أن يتقدم بتشريع يصدر بأمر مؤقت بتشكيل لجنة للقوانين وإصلاحها تسارع في تطبيق الإصلاح الذي دعا إليه وما يدعو له في كتابيه وللقيام بصلاحيات مجلس الوزراء في إعداد مشاريع القوانين وتقديمها للسلطة التشريعية ، وتكون عونا له في أن يصدر القرارات واللوائح اللازمة لتنفيذ السياسات العامة ، ويحفظ التوازن بين هذه الصلاحيات وصلاحيات مجلس السيادة بما لا يقود إلى الصراع بين السلطتين .
النظام القضائي في السودان
يعد النظام القضائي ركيزة أساسية لأي دولة حديثة ويعكس مدى استقرارها وتطورها ، وكما سبق لنظام الحكم شهد القضاء أيضا تحولات عديدة وتأثرت بالاضطرابات السياسية والعسكرية التي مرت بها البلاد . وقد اكسبت الدساتير السودانية المتعاقبة القضاء استقلالا كاملا بان السلطة القضائية هي المسئولة عن القضاء والمحاكم في الدولة وتحقيق العدالة والفصل في المنازعات ، وان رئيس القضاء هو رئيس السلطة القضائية القومية ، وسبق ذلك دمج القضائيين الشرعي والمدني .
وفي ظل النظام المايوي ودستور السودان الدائم 1973 شهد السودان تحولا من التركيز على دور رئيس القضاء كمسئول إداري وحيد إلى تبني نموذج مجلس القضاء الأعلى والذي يهدف نظريا إلى تعزيز استقلالية القضاء وتوزيع السلطة ، رغم أنه يعزز من هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء بوجود أكثرية من التنفيذين والبرلمانين ويؤثر على استقلال القضاء في ترقياتهم ونقلهم وغيرها من مسائل الإدارة .
واستحدث دستور السودان لسنة 1998 المحكمة الدستورية كمحكمة مستقلة كما سبق في المقال الأول . وقد كنت الأمين المناوب للجنة القومية للدستور والتي كانت برئاسة مولانا خلف الله الرشيد واللجنة الفنية والتي كانت برئاسة مولانا دفع الله الرضي رحمهما الله رحمة واسعة وقد كان مقترح اللجنة القومية للدستور أن تكون دائرة دستورية بالمحكمة العليا إلا أنه تم تعديل ذلك بواسطة دكتور حسن الترابي رحمه الله ، مما أثار رفض اللجنة والتي قدمت مذكرة اعتراضا إلا أن المجلس الوطني أقر قيام محكمة دستورية مستقلة عن المحكمة العليا وكان ذلك من اتجاه قيادة المجلس في تبني الحكم الفدرالي واستقراءا لما يمكن أن يحدث بين السلطات ودور المحكمة الدستورية المأمول والذي كان من أسباب المفاصلة أيضا . ومما أذكره للتاريخ بعد قيام المحكمة الدستورية الأولى برئاسة مولانا جلال على لطفي رحمه الله اتصل بي وكنت مستشار المجلس الوطني في ذلك الوقت ورأي ان يجمع لقاءا بين المحكمة ورئيس المجلس ، وتم اللقاء وتبادلا الحديث حول دور المحكمة الدستورية ، وأذكر للتاريخ ان مولانا رحمه الله القاضي حسن البيلي عضو المحكمة الدستورية ونائب رئيس المحكمة كان غاضبا جدا من الدعوة واللقاء بما يفقد المحكمة استقلاليته وحياده ، وقد قضت المحكمة الدستورية في القضية الشهيرة رقم لسنة 2000 دستورية بين إبراهيم يوسف هباني وآخرون ضد رئيس الجمهورية وارست قاعدة أن لرئيس الجمهورية أن يمارس حقه في إصدار ما يراه من قرارات في الرباع من رمضان 1420 هجرية وفقا للدستور وما يتصل به من أعراف وما هو معمول به في البلدان الخرى زما اقتضته الظروف الاستثنائية والضرورية والمصلحة العامة كما أضاف أن الوضع الدستوري قد تغير في السودان بعد إنشاء المحكمة الدستورية وأصبح من اختصاصها أن تنظر في كل المسائل سواء كانت سياسية أم غير سياسية ، وهذه القضية مثارها أهل الفقه عند نقاش مشروع القانون بإذن الله .
القضاء في دستور 2005
في هذا الدستور تم تخصيص فصل كامل للجهاز القضائي لجنوب السودان واستد الاختصاص القضائي في الجنوب إلى مؤسسة مستقلة تسمى السلطة القضائية لجنوب السودان وأكدت على استقلاليته عن السلطتين التنفيذية والتشريعية وتتكون من المحكمة العليا لجنوب السودان وأعطيت صلاحيات منها الفصل النهائي في الدعاوي المدنية والجنائية ، كما منحت الفصل الابتدائي في النزاعات الدستورية التي تنشا عن الدستور الانتقالي لجنوب السودان ودساتير ولايات جنوب السودان والفصل في دستورية القوانين ومراجعة أحكام الإعدام . ورغم الأخذ القضاء الفدرالي ووجود نص عن القضاء الاتحادي والولائي في الدستور إلا أن السلطة القضائية مكنت من مركزية القضاء في الإدارة والتعيين والنقل وغيره في بقية ولايات السودان .
القضاء في الوثيقة الدستورية 2019 وتعديلاته
رغم أنه من بنود مهام الفترة الانتقالية في المادة 8 من الوثيقة الإصلاح القانوني وإعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية وضمان استقلال القضاء وسيادة حكم القانون ، إلا أن الوثيقة وفي الفصل الثامن نص على إنشاء مجلس القضاء العالي ليحل محل المفوضية القومية للخدمة القضائية وأن هذا المجلس يعين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية ورئيس القضاء ونوابه كما نص في المادة 31 على المحكمة الدستورية كمحكمة مستقلة ومنفصلة عن السلطة القضائية ، فقط هكذا ولم تنص على كيفية تعيين بقية القضاة في المحكمة العليا أو كيفية إدارة القضاء ونظامه مركزي أم فدرالي ، وحيث استمر الوضع غير المفهوم منذ 2019 ولم يقم مجلس القضاء العالي بل رفض التجديد لقضاة المحكمة الدستورية بعد أن أتموا مدتهم وهي سبع سنوات قابلة للتجديد ورفض التجديد لهم حتى جاءت تعديلات الوثيقة الدستورية 2025 وجاء نص المادة 12:خامسا بإلغاء الفقرة (و) والاستعاضة عنها بالفقرة الجديدة والتي تنص على : تعيين رئيس القضاء ونوابه ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية بعد ترشيحهم من مجلس القضاء العالي ، ولحين تشكيل المجلس يعينهم مجلس السيادة ولم تحدد الوثيقة آلية التعيين أو شروط التعيين .
القضاء في اتفاقية جوبا 2020
تتضمن الاتفاقية عدة بنود ومحاور تتعلق بشكل مباشر او غير مباشر بالقضاء منها إصلاح القضاء كأحد القضايا القومية بهدف تعزيز استقلال القضاء وضمان نزاهته ومراجعة القوانين وإعادة هيكلة المؤسسات القضائية وتدريب وتأهيل القضاة والعاملين في هذا القضاع وإنشاء محاكم خاصة وتمثيل الحركات المسلحة في السلطة القضائية تمثيلا عادلا ، ونص أيضا على تقاسم السلطات ومنها السلطة القضائية وفق الصلاحيات المتفق عليها في مستويات الحكم المختلفة مما يشير إلى أهمية أن تولي الدولة مؤتمر نظام الحكم في السودان
خلاصة :
بالتعمق في هذه الوثائق وبالنظر إلى الظروف الموضوعية وفي ظل غياب التشريعات والحاجة الماسة لها أجد أن البروفسير كامل إدريس قطعا مهموم بهذه المسائل والتعقيدات وخاصة إذا كانت دستورية إذ أن الدستور هو قمة الهرم القانوني ويسمو على كافة التشريعات والقوانين ولا يجوز لأي قانون أن يتناقض معه مما اقترح وللحاجة الماسة أن يشكل رئيس الوزراء لجنة للتشريعات من القانونين وأهل الاختصاص في كل موضوع واستعجال تقديم مشروعات متعلقة بمجلس القضاء العالي وتشكيله ، كما انه من الضروري إصدار تشريعات تتعلق بعودة الحياة وإعادة الإعمار بأتمتة المعاملات سواء في المؤسسات العدلية ( وبالمناسبة تم عمل ذلك في عهد المرحوم بروفسير حيدر رحمة الله عليه إلا أن عقلية الارتباط بالتاريخ في العمل القضائي منع من التطبيق ) وغيرها ولتصدر بمراسيم مؤقتة ، وإلزام الولاة والوزراء بان يكونوا ممن يعرفون أصول التقنية لتسهيل حياة المواطنين والعمل على تقنين ذلك والسعي لتوفير الكم الهائل من الورق والايصالات وانتظار التوقيعات ، والعمل على اقتراح التشريعات قانونا أو لوائح او أوامر داعين للسودان بالعودة سريعا إلى المعافاة والتنمية .

Exit mobile version