في وداع السفير عبد الله الأزرق.. “عبد الله.. والله مشتهينك يااا حليلك”

عثمان أبوزيد

أدركت أنه دخل في مرحلة خطيرة من المرض لما انقطع هاتفه وفشل التواصل معه. كان يطلعني على حالته الصحية منذ أن كان في تركيا ثم بعد انتقاله إلى مصر.
الأخ السفير عبد الله الأزرق… انفصلنا أجسادًا سنوات طويلة وبقيت علاقتنا ممتدة عبر التواصل إلى أن قطعها المرض، ثم سمعنا نعيه صباح هذا اليوم الثلاثاء 8 يوليو 2025، ولكل أجل كتاب.
التحق بجامعة أم درمان الإسلامية بعدنا بسنة أو سنتين، وفي ذاكرته ملامح حية من ذلك العهد حتى إنه يحفظ بعض الجمل من خطب كنا نلقيها في تجمعاتنا الطلابية.
عندما اشتد عليه المرض، رجوت بعض مجاوري الحرم في مكة أن يدعوا له، وقد فعل (أحبة الحرم) وألحُّوا في الدعاء له.
في الحديث الصحيح: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: “ما مِنْ مُسلِمٍ يَدْعو بدعوةٍ ليسَ فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رَحِمٍ إلَّا أعطاهُ اللهُ إِحْدى ثلاثٍ: إمَّا أنْ يُعَجِّلَ لهُ دعوتَهُ، وإمَّا أنْ يدَّخِرَها لهُ في الآخِرةِ، وإمَّا أنْ يصرِفَ عنهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَها”.
كتب عبد الله الأزرق عندما توفيت الجوهرة جرزلدا: “كان بيني وبينها محبة. تزورنا في بيتنا وأزورها. وحين ألتقيها تُشعرني كأنها أمّي، وتقول لي بكل الدفء والحنان: “عبد الله والله مشتهياك… يااا حليلك”.. ولا أجد في مخاطبة عبد الله الأزرق يوم رحيله ما هو أبلغ من حديث الجوهرة: “عبد الله والله مشتهينك… يااا حليلك”.
وفي نعي جرزلدا نقل الأزرق قصة ذات دلالة: “حدثني السفير حسن عابدين أن عبد الله الطيب التقاه مرة في الجامعة -ولعل ذلك كان حين كان عبد الله مديرها- وسأله عن أداء جرزلدا التي كانت تُحضّر لدرجة الماجستير معهم. قال له حسن عابدين: “كويس ….. بس الغريبة يا بروفسر إنها مرات بتغلط في الإنجليزية”!! فردّ عليه البروفسور: “يعني شنو…… إنت ما بتغلط في العربي؟”.
قال لي حسن عابدين: والله لم أسمع رداً صاعقاً كهذا، ولم أنتبه إلى أنني أخطئ في العربية إلّا ذلك اليوم!!!
كنت أمازح عبد الله حين يطلب التعليق على كتاباته: لا أرى في كتاباتك من بأس سوى علامات الترقيم الكثيرة خاصة علامات التعجب، فأقول له تكفي علامة واحدة، فيصر على تكثير العلامات لأن علامة واحدة في هذا الزمن العجيب لا تغني شفاءً من غليل!
كتب عبد الله على فترات متباعدة طرفًا من الوقائع التي مرت عليه في العمل الدبلوماسي ووزارة الخارجية، فرجوته أن يسجل مذكراته لأن أعظم ما يتركه الإنسان خبراته وتجاربه في الحياة، وقد أوفى بالرجاء، ولعل ما أنجزه يكفي لكتاب مكتمل، فعسى أبناؤه يحرصون على ذلك.
ومن أجود ما قرأت له أنه وفي عام 1994 وكان دبلوماسياً بواشنطن فانتدبه السفير أحمد سليمان لحضور محاضرة قدمها المهندس نجم الدين أربكان، رئيس حزب الرفاه التركي.. وكان يجلس مجاوراً للسيد عبد الله قُل أحد مساعدي أربكان وقتها والذي أصبح رئيساً لتركيا فيما بعد.
وفي المحاضرة قال أربكان: إن حزبه سيفوز بانتخابات العام القادم وسيحكم تركيا.. عندها التفت لعبد الله قُل، وقال له:
هذا تصريح خطير، ألستم خائفين من تكرار تجربة الجزائر معكم؟
قال له: لسنا خائفين.
ولكن وكما توقع لم يمكث حزب الرفاه كثيراً حتى اضطره الجيش للتخلي عن الحكم عام 1997.
وله بحث عن الأسباب التي تجعل مسيحيين كباراً في الكنيسة أو المجتمع في الغرب يسلمون، ونُشرت خلاصاته في سلسلة مقالات بعنوان: (أقربهم مودة)؛ ووجد أن أهم سبب هو قراءتهم للقرآن.
غير أن كتابه “تنظيم الدولة الإسلامية – داعش – إدارة التوحش” يظل أقوى إنتاجه الفكري، وهو من أوائل الكتب التي تناولت هذا التنظيم بحيادية وعمق. وفي ظني أنه صدر باللغتين العربية والإنجليزية. وحظي الكتاب بتقديمين أحدهما من البروفسير حسن حاج علي الأزرق، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم والآخر من الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل وزير الخارجية الأسبق.
وكان السفير الأزرق قد انتهز فترة نقاهة بعد إجراء له عملية جراحية بتركيا تطلّبت بقاءه منعزلاً عن الناس لفترة تزيد عن ثلاثة أشهر، فاستفاد الرجل من تلك العزلة وأنجز كتابه بعد أن أفرغ جهده في الرجوع إلى ما كُتب عن (داعش) في مصادرها الغربية، واستمع لشهادات حيّة من بعض العارفين بخبايا التنظيم.
وجاء في تقديم البروفسير حسن حاج علي للكتاب وهو يتحدث عن المؤلف “معرفته بما يدور خلف الكواليس وداخل الغرف المغلقة، والربط بين المسطور والمستور”.
إن مما يحسن عزاءنا فيك ويهدئ لوعتنا أن نذكر بعض جمائلك وأخلاقك ثم ندعو لك بالرحمة والمغفرة والقبول الحسن، وأن يبارك في عقبك وأهلك. إنا لله وإنا إليه راجعون.

Exit mobile version