محمود حسين سري
في سبتمبر 2022 وفى كلمة خلال احتفال الجيش بالذكرى الـ124 لمعركة «كرري» بين القوات البريطانية والقوات السودانية المهدوية، طلب الفريق أول عبد الفتاح البرهان من بريطانيا تقديمَ اعتذار رسمي عن «جريمة المستعمر» وقال البرهان يومها إنَّ ما قام به الجيش الانجليزي كان جريمة ضد الإنسانية يستحق مرتكبوها الحساب حيث مارسوا القتل والفظائع لمدة أربعة أيام بعد المعركة.
وربما حاول البرهان يومها التعبير عن رفضه الدور البريطاني في الأزمة السودانية والقول أن مَن قتل أجدادنا بالأمس هم مَن يتنادون اليوم بالمحكمة الجنائية الدولية والعقوبات الدولية وعزل السودان والتشكيك في جيشه وتفكيك وتقسيم السودان. وكان من الممكن أن يلتقط أي حزب سياسي أو قيادي وطني أو ناشط حقوقي أو جمعية وطنية رسالة البرهان ويبدأوا في تجميع الأدلة لملاحقة بريطانيا كما فعلت دول كثيرة في المنطقة والعالم واستخدمتها أدوات ضغط على المجتمع الدولي الذى لا يجيد غير ضغط السودان. ولكن يبدو أن الأحزاب والقوى السياسية والمدنية السودانية ميتة ونائمة نوم القبور.
إن المظاهرات الشعبية والوقفات الاحتجاجية الحاشدة التي نظمتها الجاليات السودانية في العواصم الأوروبية في أشرع الباستيل في باريس وفي برلين وفي واشنطن وفي لندن وفي مدن غربية أخرى، في نوفمبر 2025 أسهمت في تسليط الضوء على الحرب في السودان. في هذه الاحتجاجات نظم السودانيون المهاجرون في الخارج وناشطون وقفات احتجاجية أمام وزارات الخارجية والمؤسسات الأوروبية في عواصم مختلفة للمطالبة بوقف “الإبادة الجماعية” في دارفور على أيدي قوات الدعم السريع. حيث ركز المتظاهرون على دعوة الحكومات الأوروبية والمجتمع الدولي لتحمل مسؤولياتهم، والضغط على أطراف النزاع (خاصة قوات الدعم السريع التي تفرض حصاراً على المدينة) لفتح ممرات آمنة للمدنيين وإيصال المساعدات.
وقد كان لهذه المظاهرات أثر أكبر من أي عمل قام به حزب سياسي، أو مجموعة سياسية أو حكومة سودانية، أو حتى وزارة الخارجية السودانية أو المؤسسات الرسمية السودانية أو المؤسسات الاعلامية السودانية.
إن هذه المظاهرات والوقفات الاحتجاجية والحملات مِن قِبل الناشطين في السوشيال ميديا غيرت مفهوم المواطن الأوروبي والأمريكي لما يدور في السودان ووضعت حكومات الغرب أمام إحراج وضغط سياسي وورطة أخلاقية وخجل في القيم التي تتحدث بها هذه الدول، ومأزق في السياسة الخارجية الأوروبية والأمريكية في تعاملهم مع الأزمات وحيرة في قدرة المؤسسات الإقليمية والدولية والدبلوماسية في التعامل مع ملف السودان.
وقد جأت الإستجابة غير متوقعة، إذ أعرب الاتحاد الأوروبي بدوله السبعة وعشرين لأول مرة منذ اندلاع الحرب أن ما ترتكبه قوات الدعم السريع، حليفه العسكري في السودان، بأنه”فظائع” واعتبر سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر “نقطة تحول خطيرة” في الحرب.
وعقد البرلمان الأوروبي جلسة استماع عامة لمناقشة الكارثة الإنسانية وملف حقوق الإنسان في السودان. وأيد الاتحاد الأوروبي ودوله السبعة عشرون والولايات المتحدة الامريكية إجراء تحقيق من قبل المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم المرتكبة. و عقد مجلس وزراء خارجية الدول الأوروبية السبعة وعشرين ولأول مرة منذ اندلاع الحرب اجتماعين حول السودان وتم استدعاء مسؤولين أوربيين في البرلمانات الاوروبية وانتقادهم على صمتهم المخجل أمام الجرائم والبشائع التي حدثت في الفاشر ضد الأبرياء وخصوصاً قصص النساء والاطفال.
وقد نطق الشهادة الذهبية ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي عندما أتهم قوات الدعم السريع بارتكاب فظائع وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في السودان، بما في ذلك الاغتصاب والجرائم ضد الأطفال وألمح إلى أن النظر في تصنيف قوات الدعم السريع كمنظمة إرهابية وارد ، وذكر أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يهتم شخصيًا بملف الحرب في السودان، ويعتبره الزعيم الوحيد القادر على إنهاء الأزمة.
إن الدرس المستفاد هنا هو أن المظاهرات الشعبية والاحتجاجات المدنية والحملات الإعلامية على السوشيال ميديا من قبل السودانيين والشعوب المتعاطفة مع قضيتهم أتت بثمارها. وأن هذه المظاهرات يجب أن لا تنتهي والاحتجاجات يجب أن لا تتوقف والحملات يجب أن لا تنقطع، بل على العكس يجب أن تزيد وأن تستمر كونها وسيلة للتعبير السلمي المستقل الذي يفضح جرائم الدعم السريع والحواضن السياسية التابعة لها داخل السودان وفي الإقليم وفي المجتمع الدولي بما فيهم المنظمات الدولية والمؤسسات الدولية والمسؤولين الذين يتجنبون قول الحقيقة في ما يحدث في السودان.
إن هذه الاحتجاجات يجب أن تتواصل والمظاهرات يجب أن تتوالى والحملات الإعلامية يجب أن تدوم لأنها ستفتح باب وشباك للحكومة والجيش السوداني في الضعط على المجتمع الدولي لإنهاء الحرب.
إن هذه الاحتجاجات الشعبية والحملات الإعلامية يجب أن لا تركز فقط في فضح جرائم وفظائع وانتهاكات قوات الدعم السريع بل يجب أن تمتد إلى فضح الدعم المالي والعون العسكري والسند الإقليمي والدولي بالصمت لما يدور في السودان. فالصمت عما يدور في السودان ضد الأبرياء جريمة والسكوت عن أفعال قوات الدعم السريع لترتكب مجازرها جريمة والوجوم للدعم الإماراتي ومن دول الجوار جريمة والتخاذل الإقليمي والدولي جريمة.
إن هذه الاحتجاجات الشعبية والحملات الاعلامية والمظاهرات يجب أن تفضح جرائم الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية والتي مازالت مستمرة إلى يومنا هذا ولكن في أشكال وصور مختلفة.
فالاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية التي تلاحق الجيش السوداني، المؤسسة الرسمية للدولة، وتتقاضى عن قوات الدعم السريع المتمردة ضد الدولة، في أروقة الأمم المتحدة بالقرارات وجلسات واجتماعات الإدانة والدعاية السوداء وتعمل على تجريد الجيش من شرعيته و عزله، هي نفسها التى مولت مكتب رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك من خلال مشروع بلغت قيمته 11 مليون يورو من “الصندوق الأوروبي للائتمان الطارىء والاستقرار” تحت مسميات مخاطبة الأسباب الجذرية للهجرة غير النظامية والنازحين في أفريقيا وتحقيق التنمية وجودة الحكم والحصول على السلامة والعدالة.
والحقيقة أن ذلك المشروع ما هو إلا دعم شهري بملايين اليوروهات على شكل رواتب للمستشارين الذين أفسدوا الفترة الانتقالية وأوصلوا البلاد إلى الدرك الأسفل وأوقدوا شعلة الحرب الدائرة في السودان الآن وإتوا ببعثة فولكر الأممية التي كتبت الاتفاق الإطاري الذي قاد إلى هذه الحرب اللعينة. إن هدف هذا المشروع الذي يجب أن يعاد الحديث عنه وكشف تداعياته هو السيطرة والاخضاع والتحكم في السودان وأن دولاً وحكومات و دبلوماسيين في الإتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الامريكية شركاء في التخطيط والتنفيذ والتمويل، جمعوا المعلومات الرسمية عن السودان من مكتب رئيس الحكومة مما يتطلب من أي حكومة وطنية قادمة ورجال قضاة وطنيون وزعماء سياسيين قلبهم على السودان أن يجعلوا من أولوياتهم الآن وليس غداً فتح تحقيق في هذه الكارثة ومحاسبة من تسبب وشارك فيها حتى لا تتكرر السيناريوهات.
ولم تتوقف جرائم الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي في السودان إلى هذا الحد، بل استمرت مع جهات فاعلة غير أوروبية بغرض السيطرة على تحركات الهجرة وإيقاف المهاجرين من أفريقيا لعقود من الزمان. وقد سعى الاتحاد الأوروبي ودوله إلى التعاون مع المتمرد محمد حمدان دقلو وقواته الإرهابية والقمعية من خلال تمويل السودان في إطار اتفاقيات وصناديق وبرامج متعددة من أجل تعزيز السيطرة على الهجرة ــ وبالتالي تعزيز وتطوير سلطة الدعم السريع – فهل لدى حكومة السودان وأجهزتها الأمنية وجيشها الوطنى بيان بهذه المعلومات؟
لقد أشار كثير من قادة المجتمع المدني السوداني في اجتماعتهم مع البعثات الأوروبية والغربية لدورهم الواضح في تأطير وتقوية وتمكين الدعم السريع من السودان وقالوا لهم إن ما قدمتموه من تمويل وإسلحة واعتراف، بما في ذلك إيصال محمد حمدان دقلو إلى أعلى هرم السلطة هو ما مكنه من استخدام ذلك في قمع وإرهاب السودانيين والمتظاهرين الثوار المدنيين.
إن الأدوار السلبية التي يقوم بها مبعوثو بريطانيا ريتشارد كراودر، والولايات المتحدة مسعد بولس، و الإتحاد الأوروبي للقرن الافريقي أنيت ويبر، في السودان ماتزال مستمرة، وما تزال اجتماعاتهم متواصلة مع مستشاري قائد الدعم السريع وتعقد في دول أفريقية. فهل يمكن أن يجيب هؤلاء المبعوثين الغربيين أين ذهبت أموال مكافحة الهجرة ؟ فالسودان في المرتبة الرابعة في القرن الأفريقي وقد استفاد من تمويلات مكافحة الهجرة التى بلغت 500 مليون يورو من جملة 2 مليار يورو.
إن جرائم الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة لم تتوقف بل هي مستمرة اليوم من خلال تسييس الملف الإنساني السوداني. فأين تذهب ملايين اليوروهات التى تتعهد بها هذه الدول لتقديم المساعدات الإنسانية للسودان.
في اليوم العالمى لحقوق الإنسان سنة 2022 أعلن سفير الإتحاد الأوروبي السابق إيدان أوهارا من داخل مقر الاتحاد الأوروبي في قلب مدينة الخرطوم وعلى بعد خطوات من مقر وزارة الخارجية السودانية تقديم حزمة مالية بقيمة 15 مليون يورو تخصص منها 5 مليون يورو لدعم ملف حقوق الإنسان في السودان و 5 مليون يورو أخرى لدعم سيادة القانون وتوفير الخدمات الاجتماعية للمحتجزين وتوفير المساعدة القانونية للسجناء. وأن مبلغ الـ5 مليون يورو الأخيرة ستسخدم في دعم الشباب الطامح للتحول الديمقراطي والسلام والتمكين المدني. فأين ذهبت هذه الأموال؟
وبالطبع لم تدع وزارة الخارجية لذلك الاحتفال ولم تحرك ساكناً لاستدعاء السفير للتشاور حول كيفية صرف هذه المبالغ وقنواتها ومراقبة تحقيق أهدافها، ومرت الأمور مرور الكرام في عناوين الصحف السودانية. إن هذه الأموال تم صرفها على “مؤسسات المجتمع المدني” والتي ظهرت في حمى الفوضى الخلاقة والثورة المضادة والانفلات الأمني والحرب الأهلية الدائرة الآن.
إن الهدف من هذه المقالة هو أمرين: الأول الطلب من الحكومة الوطنية في بورتسودان فتح تحقيق رسمي في مشروعات التنمية التى مولتها ونظمتها المملكة المتحدة والولايات المتحدة الامريكية و الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية في دعمها لمكتب حمدوك ومشروعات الهجرة ومؤسسات المجتمع المدني، والأمر الثاني وضع ضوابط دبلوماسية وأهلية وقانونية جديدة تحترم سيادة السودان وأن ترتفع كل من وزارة الخارجية وسفارتها ووزارة المالية والعدل والتعاون الدولي ومفوضية العون الإنساني والأجهزة الأمنية والعسكرية إلى مستوى المسؤولية الوطنية وتعمل بجد على ضبط أموال التعاون الدولي التي أدت إلى هذه الحرب.
إن الفترة القادمة مهمة لمواجهة الدبلوماسيين الغربيين وتوعية الشعب السوداني وقياداته السياسية بهذه الأمور وبكل هذه الحقائق والاتهامات و الاستخدام السيئ لأموال التعاون الدولي في بلادنا والتي استخدمت في تفكيك الشعوب ونشر الكراهية وتعميق الجروح وتعزيز الانقسامات وإشعال الحروب.
