في رثاء الشيخ الترابي.. لا تحسبوه ممات شخصٍ واحدٍ فممات العالمين مماته

 

صديق محمد عثمان 

شمل الهدى والملك عم شتاته والدهر ساء وأقلعت حسناته

بالله أين الناحل الذي لله خالصة صفت نياته

لا تحسبوه ممات شخص واحد فممات كل العالمين مماته

 

(أبيات الأصبهاني في رثاء الناصر صلاح الدين.)

*****

 

أخرسنا الحزن….. فمن شأن النوازل انها تصيب وظائف الفكر السليم فتشل حركته تماماً كما أصابت علة القلب وظائف جسد الشيخ الترابي نهار السبت الخامس من مارس ٢٠١٦، والموت هو النازلة التي لم يهيء المولى العقل البشري للاعتياد عليها على كثرة وقوعها وتكرارها، وموت الأعزاء أشد مصابا على النفس لكأنه ينزع الاحشاء يجرها جرا الى الدار الآخرة التي يمضي اليها الأموات.

 

لذلك تعهد المولى عباده الذين تفجعهم مصيبة الموت بالبشرى اذا سارعوا اليه يردون حركة فكرهم من مسارات الجذع ويضعونها في الطريق القويم اليه ( انا لله وانا اليه راجعون)، ويرجعونا الى ذات السبيل الذي تمضي فيه الأرواح تعود الى منشأها الاول، والذين يفعلون ذلك لابد أنهم يستخدمون رصيداً هائلا من الصلوات والرحمة التي ظلوا يوالون على ادائها ويواظبون على أقامتها، لذلك يبشرهم المولى بمضاعفة رصيدهم من الصلوات والرحمة ويبشرهم بالهداية والفلاح.

 

لم يكن الشيخ الترابي قائداً سياسياً او مفكراً من الطراز الذي تتراكم لديه المعارف بكثرة القراءة او طول الممارسة، ولكن اختصه المولى منذ البداية بمؤهلات لا تتوفر الا للقلائل الذين يهيؤهم المولى للقيام بادوار خاصة. فقد أمتاز على الآخرين بامتلاكه ادوات تفعيل مصادر المعرفة واستنباط قدر هائل من المعارف على نحو جعله من الذين لا يخشون تنافسا فيحتاطون لذلك بحجب المعرفة واحتكارها، بل كان من افضل الناس سعيا في تمليك الآخرين مهارات وأدوات إستنباط المعرفة وكان يجهد نفسه في استفزاز الآخرين للتسلح بالعلم والمعرفة، يحتفي بالعقل النقدي ويشجعه ويواظب على ابتدار الحوارات.

 

كان رحمه الله يتذكر نشأته الاولى وحرصه على أن ينهل من علوم اللغة والحديث والقران الكريم وفق برنامج صارم، ولكن رتابة حركة الحياة وطبيعتها في السودان كانت أدنى من أن تسهم في استفزاز معارفه التي يتحصلها، حتى إذا ذهب للدراسة في الجامعات البريطانية والفرنسية بدأت نصوص ما اختزنه من معارف تتنزل على واقعات الاحداث كما كان القران يتنزل لأول عهده، وهذا ما دفعه الى ان يحشد طاقاته في تحريك عجلة الحياة السياسية والفكرية في السودان فور عودته من الدراسة فوق الجامعية.

 

والراصد لحركة الشيخ الترابي منذ عودته من الدراسة بالخارج يلحظ انه لم تستغرقه حركته الخاصة فما أن انتظم في صفها قياديا حتى شرع يدبر أمورها ويرتب صفها ويصوب مناهجها دون أن ينقطع معتكفا داخلها مستغنيا بهذه المهمة الجليلة عن الإسهام في قضايا الشأن العام للبلد لانه كان يؤمن أن التوحيد ليس عقيدة مجردة وتصور افتراضي لمعتقدات غير محسوسة، ولكنه منهج عملي يسعى لتوحيد قضايا الحياة كلها لتتصل بخالقها وتستلهم من وحدانيته توحدها في سبيل سالكة اليه سبحانه. ويلحظ المرء ذلك في منهج مقاربته للقضايا شأنا عاما او ما يلي خاصة حركته، ومن ذلك تصعيده الدعوة الى كف الحرب عن الجنوب وتصويب الجهود نحو حل شامل للازمة الدستورية التي كانت تعاني منها البلاد حينها تحت الحكم العسكري، واستطاع بما اوتي من فصل الخطاب وانطلاق اللسان وبيان الحجة ان يرجح قضايا معنوية كقضية الحريات على قضايا مادية رغم ان الاوضاع الاقتصادية لم تكن بالضيق الذي يهي الشعب للثورة على نظام الفريق عبود ، وفي داخل الحركة قادها بسلاسة شديدة لتعبر فوق جسر جدل تعريف نفسها أهي جماعة ضغط على الحزبين الكبيرين ام جماعة مستقلة تقوم متعاونة معهما ومتنافسة في ذات الوقت، و من ذلك دخول الحركة فورا في تحالفات مع تيارات داخل الحزبين وتيارات حديثة ما كان لحركة إسلامية تقليدية ان تحدث نفسها بالجلوس اليها. وعلى طريقته في الخبب الى الله سرعان ما نقل الحركة فوق جدل تليد بين نهج التربية و السياسة ، لانه كان يرى ان التربية ليست رهبانية منقطعة عن الواقع معتزلة لتطوراته بل ان نازلات الاحداث هي مسائل منهج التربية التي يختبر فيها الانسان نفسه بتطبيق ما يقرأه في الصلاة من احكام وقوانين على معادلات الحياة ويمتحن درجة استقامته على تلك القوانين التي يرددها باللسان.

 

وما من شخص يضاهي الشيخ الترابي في وضوح الرؤية والهدف فمهما تقلبت به الأحوال واكتنفته ابتلاءات وتصاريف الزمان فقد ظل أمينا لعهده واثقا من وجهته، ومن ذلك انه كان اقدر الناس على تجاوز فترات الاستقطاب الحاد الذي ينتج عن استشعار الآخرين لخطر تعاظم دعوته فلا يتركون سبيلا لا يسدونه عليه ولا وسيلة للإقصاء لا يستخدمونها ضده، ولكنه كان بارعا في شغل خصومه بنفسه يبذلها هينة يشغل بها تفكيرهم ويدفع بها غلوائهم عن حركته، فعل ذلك في مايو حين أشفق بعض تلاميذه من اثار ثورة شعبان عليه وهو رهين أسر جبروت السلطة، فكان ان اوحى لهم :

والي التطريب غرد وانا منك قريب يا حمام

في ما تسريب وإلزام ما دمت مريب بحرام

والمعنى ان يمضوا في خط مصادمة السلطة ليردوها عن جهالة التجبر من غير تسريب او افراط في الامر ما لم يقارفوا حراما. وتلك من ميزاته العظيمة اذ انه في عنفوان الخصومة لا ينسى ابدا ضوابط وحدود الاختصام وحرمات المواجهة مهما تعنفت. ولعل ذلك ما كان يمكنه من تجاوز هذه الفترات الحادة سريعا على نحو جلب له ألقاب وأوصاف البراغماتية ، فما كادت السلطة في مايو يظهر عليها الإرهاق من فرط ما استغرقت طاقتها في مواجهة الجميع، حتى التقط المبادرة للمصالحة من دون ان يشترط لنفسه وحركته غير حرية الحركة، فلما حاولت السلطة استدراجه وحركته بإغراءات المنصب والسلطة لم يخفه الاغراء ولا ( نساء بني الأصفر ) ولا ( القوم الجبارين) الذين قد يفترسون حركته بآلة السلطة العاتية، بل احتاط باتخاذ التدابير اللازمة لضبط حدود التعامل مع السلطة والمنصب ولجم ما قد يتبدى من ضعف النفوس ثم لما استوفى شروط العزم فوض أمره لله وتوكل عليه واقدم، وبذلك وحده ووفق هذه العزيمة وحدها كانت ثمار مصالحته السلطة المايوية عظيمة وفتحا كبيرا لحركته.

وفعل ذلك خلال فترة الديمقراطية التي اعقبت انتفاضة ١٩٨٥ وقد قام عليه الخصوم السياسيين يستهدفون عزله وحركته بحجة مشاركتهم في مايو التي صنعها الذين تولوا كبر الحملة عليه وشارك فيها جميع الآخرين الذين تضافروا معهم عليه، فاستقام يدفع غلوائهم دون شطط او تجاوز، بل بذل نفسه يشغل بها الخصوم عن باقي حركته فلما انجلت المعركة السياسي الانتخابية بنصر كبير لحركته لم يدع العجب والزهو يقوم حاجزا بينه وبين الذين حاولوا وأد حركته، فما ان لاحت منهم التفاتة وجنوح نحو التآلف حتى بادلهم التحية باحسن منها وفاقا وائتلافا.

 

ومن عجب ان الرجل الذي شغل الناس لأكثر من نصف قرن من الزمان، أعجز خصومه ان ينالوا منه على كثرة ما ظل يبذل نفسه حائطا يتلقى بها الضربات عن حركته. فلا يعرف رجلا في التاريخ الحديث خاض غمار الحياة السياسية بكل تقلباتها ثم استطاع ان يحتفظ بأعلى درجات سلامة الذمة المالية والأخلاقية وطهارة اليد والثوب، وعلى كثرة ما أنتجه خصومه من أدب ضده فان اجرأهم على الحق لا يستطيع ان يتهم مقدرة الشيخ على البقاء فوق مستوى الشبهات.

 

منذ بروز شخصية الشيخ الترابي ووضوح ملامح منهجه اصبح معلوما انه قد أفلح في رفع معايير التنافس على الخيرات الى مستويات غير معهودة، اما وقد افلح في الإبقاء على هذه المعايير في ذات المستويات حتى الدقائق الاخيرة من حياته الذاخرة، فقد اتعب معاصريه ان يحتفظوا بالأكسجين في اجهزة تنفس مساهماتهم الفكرية والسياسية حتى اخر الشوط كما فعل هو، ولكنه اتعب الأجيال التي ظلت تنتظره عند نقطة سباق التناوب، ليس من حيث سرعة العدو والخبب نحو كمالات الدين فحسب ولكن في مستوى الاحتفاظ بالراية نظيفة بيضاء.

 

وما كان الشيخ الترابي لينجز ما انجزه لولا انه كان يرمي أحماله على امرأة نخلة حيثما غيبه الجلادون انتصبت كويني مانديلا وحينما أفقده الجبروت الحرية التي يحب ان يبددها نصبا وتعبا، تعهدت هي بان تتعب الجبروت صبرا وجلدا ومضاء عزيمة، لم تكتفي برعاية اسرتها وتنشئة ابنائها على كريم الأخلاق وفضائل الاعمال، ولكنها رمت ظلالها فوق شباب وطلاب الحركة الاسلامية تقوم معهم وبينهم ليالي القيام والذكر وتعود مرضاهم بالمستشفيات وتفتح دارها لجرحاهم، وتقف بنفسها على خدمتهم وهم يتدللون عليها دلال الأبناء على امهم الحنون، وفي مراحل الاستقطاب الشديد كانت السيدة وصال الصديق عبدالرحمن محمداحمد المهدي ظلا وريفا لابناء الحركة ونشطائها لم تتردد ان تنتظم في قيادة صفهم حتى حينما كان ذلك يعني مقابلة أشقائها في المواجهة العاجلة وحمية المماحكة السياسية.

 

لفرط حزني ووجعي على فراق رجل ترملت من بعده منابر الفكر ومساقات المسير الى الله ومقامات الاستقامة والشهادة على العصر والقوامة على النفس اللوامة والاخرين، يتهيأ لي ان وجعي لا يعادله وجع، ولهف نفسي على روحه الطاهرة الشفيفة لا يدانيه لهف الانفس التي سارت باكية وراء نعشه في الخرطوم، وانا اكتب على ارتفاع الاف الأقدام فوق سماء أوروبا الملبدة بالغيوم بعد ان تحررت من الهاتف الذي لم ينفك ياخذ بتلابيبي، تتلبد في جوانحي غيوم العبرات وتختلج نفسي بلواعج حزن يكاد يعصرني فأسليها وأسريها وأعزيها بالأماني بان يكرمني المولى بصحبته في دار البقاء كما أجزل لي العطاء بصحبته في دار الفناء وأظللني عصراً عاش فيه رجلٌ اسمه حسن الترابي.

Exit mobile version