في انتظار العودة.. كيف أحببت السودان؟

آراء حرة

كتبت: سمر إبراهيم

 

في حياة كل إنسان شيءٌ ما خذله على مَرّ حياته، ربما يكون الخذلان جاء من صديق، أو حبيب، أو هدف لم يتحقق. أما في حالتي الشخصية تعرضت لخذلان جديد من نوعه، فرغم أنني تجرّعت مرارة الخذلان من قبل – كحال جميع البشر؛ إلّا أنّ هذه المرة قد خذلتني دولة لا أحمل جنسيتها، ولم تكن مسقط رأسي، ولم يربطني بها سوى “الحب والأمل”!

 

نعم.. قد خذلني “السودان” بلا هوادة.. ارتبط عملي الصحفي في الملف الأفريقي بزيارات ميدانية للدول التي أهتم بشأنها وأعمل على تغطية التطورات بها، وقد أنعم الله عليّ بمنحي فرص التعرف على الآخر في بلدان تم هجر معرفتها. ولأن للمعرفة ثمناً باهظاً، ولأن للوعي عقلاً وروحاً، انغمست بكل وعيي في تفاصيل الآخر، وبدأت زياراتي عندما بدأت العمل على هذا الملف منذ سبع سنوات بزيارة دولة “إريتريا” حيث الجمال الإيطالي في كل حدب وصوب، ثم “جنوب السودان” حيث البساطة والصدق في تكوين الإنسان هناك، ثم “كينيا” حيث هدوء وسكينة البلد، ثم “أوغندا” حيث روعة الطبيعة الإلهية، ثم “تونس” حيث الرقة والرقي، وأخيراً وليس آخراً “السودان” حيث جميع المعاني السابقة، وإضافة إلى ذلك، حيث عثرت على ما يشبه روحي وتآلفها!

 

عادة البشر أن يعشقوا العواصم المليئة بالألوان والأنوار الصَّخب وغيرها من شواهد مُتع الحياة، ورغم أن العاصمة السودانية “الخرطوم” يبدو أنها كانت تعاني الكثير من الإهمال، ولكنها تشبه القاهرة في ستينيات القرن الماضي كما أشاهدها في الأفلام الكلاسيكية التي أعشق مشاهدتها، لا سيّما أنني أحب كل شيء كلاسيكي يحمل عبق الماضي وملامح الحاضر.

 

منذ زيارتي الأولى إلى السودان، كان جلياً أنّ أجواء الدولة مُلبّدة بالغيوم، والسماء كانت شاحبة بالسُّحب، والطقس الحار يشوبه نسمة برودة تهدئ من سخونته، والنيل غاضباً تارة وهادئاً أخرى، والمحيط العام يشير إلى ضبابية المشهد وكأن تحت النار رماد قد يندلع في أية لحظة، والنور الخافت المتناثر هنا وهناك على مرمى أطراف المطار يُشير إلى عدم استقرار الوضع في البلد الجميل، تعيس الحظ، ولكن رغم كل ذلك لم أشعر يوماً واحداً بالخوف، فقد كنت أشعر بالأمن والأمان داخل تلك العاصمة التي سحرتني وأسرت قلبي منذ زيارتي الأولى لها! شعورٌ غريبٌ لا يُوصَـف، أعلم ذلك، ولكنها الحقيقة بكل تجرد.

نهر النيل هناك له ملمحٌ آخر على غير المعتاد، وتحديداً “منطقة المقرن” التي يتلاقى فيها النيل الأبيض مع النيل الأزرق، ليمتزجا ويكونان نهر النيل العظيم متجهاً في مساره إلى بلدي مصر! حقاً هي معجزة إلهية خلقها الله، المُبدع في صنعه، معجزة جعلت البلدين كـ”التوأم الملتصق” فمصيرهما مشتركٌ مهما حَدَثَ، مصير تحكمه الجغرافيا، ويُلهم التاريخ، ورمانة ميزانه “سر الحياة”! ولكن تعصف بهما الأزمات بلا هوادة وبلا رحمة! وكيف نتحدّث عن الرحمة؟! وقانون العالم الآن لا يعترف بها، بل يعرف إلّا قانون العنف فقط!

في السودان، عايشت كل ما هو “حلو ومر”، فهذا هو “السودان” الشيء ونقيضه في آنٍ واحد، لتكتشف أن ذلك الشعور هو ما يخطفك له، ويلفت انتباهك، وربما تنغمس معه بكامل وجدانك.

كل ولاية لها طابعٌ خاصٌ، وبحكم عملي زرت عاصمة إقليم دارفور “فاشر السلطان” كما يُلقِّبها السودانيون ذات الطقس المعتدل، وكذلك مدينة “الدمازين” الهادئة عاصمة إقليم النيل الأزرق، ومررت في طريق تلك الزيارة على أرض المحنة ولاية الجزيرة في مدينة “مدني” الطيبة، وتمنّيت أن أزور شمال وشرق السودان، ولكن الحظ لَم يُحالفني.

وطفت شوارع الخرطوم وأزقتها وتذوّقت جمال كل شارع بها، وألهموني بمشاعر مختلفة فعلى سبيل المثال لا الحصر، لشارع النيل مذاقٌ مختلفٌ وأثرٌ مُميّـزٌ في نفسي، فكانت أسعد لحظات حياتي حين أقف على كوبري “توتي” أستنشق الهواء حتى يمتلئ صدري به، وألتقط الصور المُميّزة لي، وأستمتع بصوت الست أم كلثوم وهي تشدو بصوتها لترجف هذا الليل الساكن، أو أذهب لست الشاي لأحتسى (الجَبَنَة بدوا) – قهوة محوجة بالبهارات – وأشاهد المراكب النيلية وهي تتمايل على أمواج النيل ويضج منها الألحان السودانية الحنينة!

وجدت حالي أبحث عن أغاني المطرب الكبير محمد وردي لأبكي دون قصد عندما استمعت لأغنية الطير المهاجر، وأسعد عندما استمعت لـ”نحنا مجبورين عليك” لفرقة البلابل الشهيرة، وأضحك عندما أستمع لأغنية “ما بنسى ليلة كنا تايهين في سمر” للمطرب محمد بشير، وأشعر بالحنين ولا أعرف لمين كما قالت جارة القمر “فيروز” عندما أستمع لأغنية المطرب عبد العزيز محمد داؤود “في حب يا إخوانا أكتر من كده؟!” وأبتهج عندما أستمع للأغنية الشهيرة “الليلة بالليل نمشي شارع النيل” للفنان شكر الله.

ضحكت وبكيت في السودان ومع أصدقائي السودانيين، جمعتنا المواقف الجميلة فاستمعت بصحبتهم، وتحدّثنا عن مستقبل السودان ومصر ومستقبل وادي النيل، وشعرنا بالأمل والإحباط، ونسجنا أحلاماً مشتركة تهاوت على صخر الواقع الأليم، وتوقّعنا أن تمنحنا الأيام فرصها السعيدة، وتحدّثنا عن مزايا وعيوب الإنسان في شمال وجنوب الوادي. وتشاركنا الحُـب والود وتقاسمنا الحُـزن سوياً، كما تقاسمنا العيش والملح والملاح، فصارت علاقتي بهم “عُشرة سنين ومواقف”.

وفتحت لي بيوت السودانيين بكل الترحاب والكرم والود، فأكلت “العصيدة، القراصة، ولحمة الشية” وتمّت ضيافتي بالتبلدي والكركدي والشاي الذي أدمنته، والجَبَنَة، وتمّ إهدائي العطور والبخور المتفرد بروائحه، وارتديت الثوب السوداني (زي خاص بالمرأة) فامتلكت أحلى صوري وأنا أرتديه. وتجوّلت بالسوق العربي بالخرطوم، وكذلك السوق الشعبي، وسوق بحري، وسوق أم درمان، واقتنيت منها تذكارات لنفسي ولأصدقائي في مصر، وصليت بمسجد الطريقة البرهانية جنوب العاصمة، واستمتعت بحضور جلسات ذكر الله، وحضرت فعاليات مولد سيدنا النبي عليه أفضل الصلاة والسلام في مدينة أم درمان، واشتريت الحلوى من هناك، وتجوّلت بسرادق الطرق الصوفية بها. وزرت الكنيسة القبطية بالخرطوم، وجامعة الخرطوم العريقة، واستمتعت بالسهر في النادي القبطي، وغيرها من المواقف والذكريات التي عايشتها في هذا البلد الذي يحتضنك وتسعد بأنس أهلها الطيبين.

ولأنّ الذكريات السعيدة هي عدو الإنسان الحقيقي والخفي، بكل أسف لقد صنعت لنفسي عدواً داخلياً يهاجم روحي كل ليلة عندما خلقت لنفسي وبنفسي ذكريات سعيدة بالسودان، فارتدت على وجداني بالحزن والفقد عندما اندلعت الحرب!!

لقد غادرت الخرطوم في آخر زيارة لها قبيل اندلاع الحرب بأسابيع قليلة، أذكر تلك الليالي الأخيرة التي قضيتها هناك، كأن “الخرطوم” كانت تودعني وداعاً أنيقاً يليق بها ويليق بقدر حبي لها. فأهدتني لحظات سعادة غامرة بحضور الحفل التاريخي للملك المصري “محمد منير” بعد غياب 15 عاماً عن السودان، فانطلقت خلالها بكل بهجة وسرور كطفلة صغيرة، ولمست يومها آمال الشباب السودانيين لوطنهم، وشعرت بقدر حبهم الهائل لبلدهم، حيث يأملون في صنع السلام ومستقبل حالم لهم، ولكن الأطماع في خيراتهم كانت أقوى من أحلامهم، والمُؤامرات تُدبّر في الخفاء للإطاحة بكيان دولتهم.

 

ولأنه على قدر حبك يتم خذلانك، فقد خذلني السودان باندلاع الحرب التي مرت عليها سنة كاملة، فتحطّمت كل أمنياتي في استقراره، واختلطت بداخلي مشاعر الفقد والحزن والأمل والألم بالبكاء، بذكرياتي السعيدة، وشاهدت أمام عيني كيف يرى الإنسان أحلامه الصغيرة تتساقط على الأرض وتنكسر بسهولة!!! فقد كنت أراهن على أنّ الخلافات لن تتجه للصعيد العسكري.

لا أصدق حتى الوقت الراهن أن سنة مرت على هذه المأساة، وأن السنة الثانية بدأ عداد أيامها!

سنة تذوّق شعب السودان خلالها النزوح الداخلي واللجوء لدول الجوار، والتشريد من منازلهم حيث تمّــت سرقتها وسرقة مقتنياتهم الشخصية وغيرها من المآسي والجروح النفسية التي تُخلِّفها الحروب، فكم من الأحلام والطموح الشخصي والاستقرار الأسري والمادي وقصص الحب ومشاريع الزواج التي تحطّـمت على فوهة الدانات والمدافع فأصبحت هباءً منثوراً، وكم من الآمال في السلام والاستقرار أصبحت صرحاً من خيالٍ فهوى!!

وكم من أسرة تنتظر عودة عائلها، وكم من أم تبكي على وفاة ابنها، وكم من فتاة تنزف ألماً على والدها، وكم من امرأة تعاني من آثار التعدي الجنسي، وكم من أب ينتظر عودة إبنه المرابط للدفاع عن وطنه، وكم من زوجة تتمنى رؤية رجلها، وكم من عائلات تحلم بالعودة لمنزلها، وكم من آلاف الأمنيات التي قتلتها الحرب!

لكن رغم كل ذلك، أشعر أن الله سينقذ السودان من هذا الاختبار الصعب وسيخرج منه متعافياً من جراح الماضي.

هكذا خذلني البلد.. وهكذا أتمنى أن ينتهي الخذلان قريباً.

Exit mobile version