فيما أرى

 

عادل الباز 

إلى ظل ممدود.. عم أحمد (1-2)

1

سبحان الله! ما إن فرغتُ من قراءة الصفحة الأخيرة من مذكرات الأستاذ أحمد عبد الرحمن، الذي يحلو لنا دائمًا أن نسميه «عم أحمد»، حتى وصلني النبأ الحزين. فهرعت فيه بآمالي إلى الكذب، وكنت، كعادتي، قد ملأت هوامش الكتاب بتعليقات ونقاط وتساؤلات حول ما ورد من معلومات جديدة فيه، بهدف إرسال استفسارات إلى ابنته عفاف، التي بذلت جهدًا عظيمًا في تدوين هذه المذكرات المهمة، واستحقت بذلك عفو أبيها وشكره، الذي زيّن به مقدمة الكتاب.

2

قبل نحو أربعين عامًا، عرفتُ عم أحمد في مدينة الدويم، التي تربطه بها صلة نسب، حيث تزوج (نور) علي الحاج، والتي أهداها مذكراته، وقال عنها بمحبة غامرة: «كانت عيني وسندي في الشدة والرخاء». كان وقتها قياديًا في الجبهة الإسلامية القومية، ومنذ لقائي الأول به، ترسخت صورته في ذهني: رجل ودود، بشوش، إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ومنذ ذلك الوقت، لم نفارقه في كل الأحوال والتقلبات التي زخرت بها حياته العامرة بالبذل والعطاء.

لم يتوقف لحظة واحدة عن العطاء. كانت حياته كلها جهادًا متصلًا منذ أيام الدراسة في أم درمان الأهلية. عاش حياة شاقة، عانى فيها الكثير، لكنه عاشها للناس وبالناس. بادلوه حبًا بحب، لكنه دفع أثمانًا باهظة لأجل ما آمن به، حتى أسلم الروح إلى بارئها بمدينة نصر بالقاهرة مساء أول أمس.

3

كنا، إذا اشتدت الأزمات وهاجت أعاصير السياسة – وما أكثر هيجانها – نبحث عن عم أحمد. كنا نعلم يقينًا أنه إما في البرلمان، أو في بيته، أو في مناسبة ما. اعتدنا أن نطوف على بيته، حيث يلقاك أهله دائمًا بالبشاشة والترحاب. ولا أذكر يومًا أننا طرقنا بابه؛ كان دائمًا مفتوحًا، والديوان عامر بالضيوف.

كنا نندهش من قدرته العجيبة على جمع الناس، رغم اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم لا يجمعهم جامع إلا ديون وقلب عم أحمد. كان شخصية فريدة في تواصله الاجتماعي، فلا تفوته مناسبة، لا زواج ولا عزاء، سواء كان في أقاصي العاصمة أو في الأقاليم. يُروى أنه عندما أُطلق سراحه ورفيقه عمر نور الدائم من سجون نميري، أصرا على أداء واجب العزاء قبل أن يذهبا إلى بيوتهما.

4

كان ديوان عم أحمد أشبه ببرلمان مصغر. النقاشات التي لا تكتمل تحت قبة البرلمان كانت تُستكمل في صالونه الأنيق، والعقد السياسية التي استعصت على الحل تُفك بحنكته الخاصة والمحببة للجميع. العجيب أن ذلك الديوان ظل كما هو رغم تقلب الزمان بصاحبه. فقد كان يومًا سياسيًا مطاردًا أيام الجبهة الوطنية، ثم وزيرًا في حكومة مايو، ثم سجينًا في ذات الحكومة، ثم قياديًا في الجبهة الإسلامية، ووزيرًا في الإنقاذ.

تقلبت به الأحوال، لكن ظل عم أحمد كما هو، وديوانه كما هو، مفتوحًا للجميع. وكنّا نظل نطوف عليه، نستمع ونسجل ونتعلم.

5

في مذكراته الممتعة، يروي أحمد عبد الرحمن الكثير عن تلك الأهوال والتقلبات. وحين تجلس إليه لتسمع حكايته، يجذبك بأسلوبه السردي المتدفق بالمعلومات، حتى تتمنى ألا يتوقف. وكذلك حين تقرأ مذكراته، تجد نفسك مشدودًا بأسلوبه السلس المفعم بالقصص.

ومن أطرف الحكايات التي رواها، أنه حين تم تعيينه وزيرًا للداخلية في عهد نميري، كان أول ما اهتم به هو إصلاح السجون، فقرر أن يجعلها مكانًا لائقًا لاستقبال المعتقلين السياسيين. سمح بإدخال الطعام من ذويهم، لأن الطعام الذي توفره الحكومة كان مشكلة في كميته ونوعيته.

وما إن أنهى مهمته تلك بنجاح، لم يمكث طويلًا حتى أصبح ضيفًا على ذات السجون التي أصلحها! ويقول عم أحمد ساخرًا: «كنت أردد دائمًا وأنا وزير للشؤون الداخلية: (بكرة نحنا ذاتنا يجيبونا هنا)». كان الناس يضحكون من عبارته، لكنها تحققت عندما زج نميري بالإسلاميين في السجون عام 1985.

نواصل…

Exit mobile version