عادل الباز
1
بالأمس قلت إن العديد من الأسئلة ضجت برأسي وأنا أقرأ بيان الخارجية الأمريكية الذي دعت فيه لحوار بين الجيش والدعم السريع ومنها السؤال أعلاه. حقاً، لماذا باعت إدارة بايدن السعودية وهي في آخر أيامها في البيت الأبيض كما يتكهن أغلب الخبراء في السياسة الأمريكية.؟.
2
حين أسست أمريكا والسعودية منبر جدة على عجل أول أيام الحرب ودعوا الطرفين، الجيش والمتمردين للمنبر، مارست الدولتان ضغوطاً شتى لكي تتم الاستجابة منهما، وقتها قالوا إن السعودية أفضل مكان للحوار خاصة أن السعودية حليف أمريكا الموثوق، ثم أن للسودانيين وداً قديماً مع السعوديين ولذا يقبلونهم كوسطاء في حربهم اللعينة هذه، ثم أكدوا أن النظام السعودي على صلة جيدة بطرفي النزاع ولذا هي مؤهلة لأن تلعب دوراً حاسماً في إطفاء نار الحرب، إضافة لقدرتها على الضغط على الطرفين إذ يرتبط كلاهما بمصالح متنوعة مع المملكة العربية السعودية.
قالوا أيضاً إن السودان بعد الحرب بحاجة إلى دولة تدعمه لإصلاح الخراب الذي سببته المليشيا المجرمة، كل ذلك قيل وأكثر، ولكن ماذا حدث بمنبر جدة؟. ما أن توصل المفاوضون لاتفاق في 12 مايو 2023 ووقعت المليشيا على التزامات محددة في ذلك المنبر حتى لملم الأمريكان أوراقهم وهربوا تجاه واشنطن وصمتوا صمت القبور.!!.
3
سارعت أمريكا بدفع أطراف الحرب للمفاوضات لأنها توهمت أنها قادرة على الضغط على الطرفين لإنفاذ ما سيتم الاتفاق عليه في منبر جدة ولكنهم عجزوا عن إلزام المليشيا بالوفاء بالتزاماتها، وبدلاً أن يفعلوا ذلك طفقوا يبحثون عن مبررات لها ويرفضوا دمغها بالإرهاب واتهامها بـ جرائم الحرب والإبادة التي ترتكبها أمام أعينهم، وبعد أن اختبأوا لعام ونصف وحصدت الحرب الآلاف من الأرواح واغتصبت النساء ودمرت البلاد، جاءوا مهرولين الآن وانتخاباتهم على الأبواب ليتقدموا بمبادرة جديدة للسودانيين، طيب والفاتت عملتو فيها شنو؟.
ما الجديد الذي يجعلهم بحاجة لمبادرة جديدة؟ وكيف نضمن أن المليشيا التي عجزوا عن إلزامها بالاتفاق السابق، ستلتزم بما ستوقع عليه في جنيف.؟.. أنا أؤيد بشدة أن تذهب الحكومة للمفاوضات في منبر جنيف أو أي منبر آخر فقط عليها أن تطرح تلك الأسئلة على أمريكا وتحصل على إجابات عليها قبل الدخول لغرف التفاوض.
4
مرة أخرى، لماذا باعت أمريكا السعودية؟ لا يمكن أن تدعوا دولة وازنة كالمملكة العربية السعودية للمشاركة في تأسيس منبر تفاوضي في قضية مهمة وخطيرة ثم تقرر فجأة أن تغلق ذلك المنبر بدون سبب لتفتح منبراً آخر، وفجأة تحول شريكك إلى مجرد مراقب وليس شريكاً في صنع السلام المتوهم.!!.
5
ما الذنب الذي ارتكبته السعودية حتى تبعد من ملف السودان؟. هذا استخفاف بالحلفاء وبالمملكة العربية السعودية، التي تملك أوراق لعب كثيرة في الساحة السودانية، ونفوذاً لا تملكه أمريكا نفسها، فبالإضافة إلى أياديها البيضاء على السودانيين تاريخياً، فهي لم تدخل في أي عداء معهم عبر التاريخ، بل آوتهم في كثير من أوقات الشدة منذ السبعينيات وإلى الآن، ثم هي الآن الداعم الثاني للسودان بعد دولة قطر في الإغاثة، ويلعب مركز الملك سلمان دوراً مهماً في تدفق آلاف الأطنان من المواد الغذائية شهرياً. فلماذا تتجاوز أمريكا السعودية؟.
6
لماذا تتجاوز أمريكا السعودية؟،
السبب الأول كما بدا لي أن الأمريكان لم يكونوا راضين عن الدور الذي لعبته السعودية في المفاوضات، إذ كانوا يتوقعون منها أكثر، يريدون منها ممارسة ضغوط على الحكومة السودانية لترضخ لمطالب مولي في التي طالبت بإدخال حلفائها (القحاتة) في المفاوضات، وطالبت بانفتاح المنبر ليشمل العملية السياسية، وكل ذلك تحفظت عليه السعودية أو لم تدعمه.
السبب الثاني.. الديمقراطيون في أمريكا يحاولون الانفراد بالملف السوداني، متوهمين أنهم بالضغط والتهديد والوعيد الذي سيمارسونه على القيادة السودانية يمكن أن يحققوا سلاماً في السودان يبيعونه للعالم وللناخب الأمريكي باعتباره انجاز خارجي، وهو الوحيد لهم في فترة الرئيس بايدن.. وذلك وهم.. لأنهم لايعرفون تعقيدات الوضع بالداخل، فليس هناك أي ضغوط يمكن أن تجعل القيادة السودانية ترضخ وتمنح الميليشيا ما لا تستحق، ومهما فعلوا فمستحيل أن توافق القيادة السودانية باتفاق أدنى من جدة، وذلك لأنها تعلم أن ذلك ليس ممكناً، بل مستحيلاً.
في آخر لقاء لنا مع الفريق البرهان سألنا مباشرة هل يقبل السودانيون بأقل من تنفيذ مقررات جدة.؟. ولم يتركنا نجيب على السؤال إنما سارع بالإجابة بنفسه.. قائلاً “طبعا لا يمكن أن يقبل ذلك”.
إذا كان الأمريكان قادرون على إلزام المليشيا بأن تنفذ مخرجات منبر جدة إذن ما الحاجة لمنبر آخر للتفاوض؟. أليس من الأوفق أن تدعوهم لإنفاذ اتفاق جدة وتؤسس آليات مراقبة للتنفيذ بدلاً من إهدار الوقت في تفاوض جديد؟.
الأمريكان عاجزون عن إلزام المليشيا، وإلا لفعلوا ذلك خلال عام ونصف شهدت فيها البلاد طوفان مجرمين (أفنى وأباد محصول مائة سنة). الأمريكان يحتالون على السودان يريدون إعادة المليشيا إلى المشهد السياسي والعسكري بأي طريقة وهيهات ولو أقاموا مئات المنابر.
7
هل سترضى السعودية بهذا العبث الأمريكي بقيمتها ووزنها ودورها الإقليمي؟. بعد هذا التنكر للدور السعودى فإني أتوقع أن أقل رد أو إجراء للمملكة العربية السعودية هو أن تعتذر عن إلحاقها بمفاوضات جنيف (كمراقب)، هذا لا يليق بها ولا يجب أن تنخدع بحديث الأمريكان المخادع بأن مفاوضات سويسرا ستؤسس على اتفاق جدة ولو كان ذلك حقاً لما احتاجوا أن يذهبوا لسويسرا أصلاً.