رأي

فلننشُدْ وزير خارجيةٍ بملامح زمن الحرب!

خالد محمد أحمد

تابعتُ، كما فعل كثيرون، الجدل الذي أثارته إشاعة ترشيح الدكتور أمجد فريد لشغل منصب وزير الخارجية، وما صاحب ذلك من انقسامٍ بين رافضٍ ومتحفّظ، وبين باحثٍ عن بديلٍ أنسب، في مشهدٍ لا يختلف كثيرًا عن تلك المداولات السودانية الكلاسيكية العصيَّة عند اختيار فنَّان العرس.

وكما جرت العادة، احتدم النقاش وتوقَّف عند الأسماء، وتجاهل الجوهر. لم يُطرَح السؤال الأهمُّ: ما هي ملامح وزير الخارجية الذي تقتضيه هذه المرحلة؟ وما هي المواصفات التي تُمليها طبيعة المعركة التي نخوضها؟

بنظرةٍ خاطفة إلى وزراء الخارجية في فترة ما بعد الثورة على سبيل المثال، سنكتشف أننا جرَّبنا عددًا من المدارس والألوان: من الدبلوماسي المحنَّك الذي ترقَّى وفقًا لتراتبية السلك، إلى السياسي الحزبي الذي أُسنِدت إليه الخارجية من بوابة المحاصصة، إلى الناشط في أروقة المنظمات الدولية والمُقرَّب من صنَّاع القرار الغربيين. ومع اختلاف الأسماء والمرجعيَّات، ظلَّت النتيجة في مجملها متقاربة.

فلماذا لا نفكّر خارج الصندوق؟ ولماذا لا نعترف بأن منصب وزير الخارجية، في ظرف السودان الراهن، هو موقعٌ من طرازٍ خاص يتجاوز قواعد السلم الوظيفي ودفاتر الأعراف الدبلوماسية؟

مع كامل الاحترام لسلكنا الدبلوماسي ودبلوماسيينا المخضرمين، فإن هذا المنصب لم يَعُد، في هذا الظرف الاستثنائي، ترفًا بروتوكوليًا أو ديكورًا دبلوماسيًا تُزيّن به الحكومات واجهتها الخارجية؛ فالأمور تجاوزت مرحلة مَنْ يحفظ بياناتٍ مكتبية منمَّقة ثم يُلقيها بلغة متكسّرة لا تكاد تصل إلى آذان صنَّاع القرار الدوليين. تستوجب المرحلة، فيما أرى، اختيار مَنْ يُتقِن أكثر من لغة الحروف، أيْ مَنْ يُحسِن مخاطبة العالم بلسانٍ مُبين، ويحمل قضيته في نبرة صوته، وفي نظراته، وفي إيماءاته، فأحيانًا تكون لغة الجسد أبلغ من ألف بيانٍ مكتوب.

يجب أن نُدرك أن وزير الخارجية لا يصوغ مواقف الدولة، بل يُجسّدها. ولما كان الأمر كذلك، فيجدُر بنا أن نختار مَنْ يُحسِن نقل هذه السرديَّات استنادًا إلى درايةٍ بأساليب تشكيل الرأي العام في العواصم المؤثّرة، وإلمامٍ بتفاصيل الإعلام الغربي، ودربةٍ في تخيُّر التوقيت المناسب للإدلاء بتصريحٍ، ومعرفة موضع الكلمة، ومَواطِن التصعيد والتراجع، والتزام الصمت الإستراتيجي (السردبة)، وخاصةً أن معركتنا اليوم لم تعُد تُخاض بالبندقية فحسب، بل بالكاميرا، وبالخبر العاجل، وبعنوانٍ في “نيويورك تايمز” أو “الغارديان”.

نحن في حاجة إلى مَنْ لا يتعامل مع المنصب وكأنَّه ناطقٌ حزبي أو موظف علاقاتٍ عامة، وإلى مَنْ لا يلقي بالاً لضجيج الترندات، ولا يردُّ على كلّ استفزازٍ، ولا ينجرُّ إلى ترهات الداخل التي تستهلك أعصاب من فيهم حيلة.

هذه المواصفات كلُّها لا أراها إلا في جيلٍ جديد نشأ في بيئات العالم الأول، واكتسب منها ما هو أكثر من اللغة؛ أيْ الشجاعة الأدبية، والانضباط المهني، والتفكير الإستراتيجي، والقدرة على التواصل بلا تكلُّفٍ أو خجل. نحتاج إلى مَنْ تشرَّب ثقافةً قوامها أن المطالبة بالحقّ لا تستدعي الاعتذار، وأن الزهد والخجل ليسا فضيلتين في بلاط السياسة الدولية.

أما أولئك الذين يرفضون تعيين مَنْ نشأ في الخارج أو يحمل جنسية مزدوجة بحجَّة التشكيك في الولاء والانتماء، فالواقع أن الوطن لم يُصَب في مقتلٍ كما ناله من أبناء الداخل، ممَّن استطعموا الفتريتة والتركين والكَوَل، وحمَّستهم (دخلوها وصقيرها حام)، وطرِبوا لـ (البلوم في فرعه غنَّى) و(ليمون بارا)، وأسكرتهم (سمح الوصوفو) و(مصر المؤمنة)، ثم باعوا الوطن في أولّ مزادٍ للمصالح الشخصية. الارتهان للخارج، يا هؤلاء، لا يحتاج إلى جوازٍ أجنبي، كما أن الوفاء لا تُحدّده الجغرافيا، بل القيم.

خلاصة القول: نحن لا نبحث عن “موظفٍ” دبلوماسي، بل عن وزير خارجية “قليص” في غير ما جلافة؛ وزير بمواصفات المواجهة يجيد لغة العالم الأول المنطوقة والجسدية، ويعرف من أين تُؤكَل الكتف، وكيف تُؤْتَي الأمور من مأتاها؛ وزير (شِفِت)، ولا أزيد على ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى