فكيف أُسومُها غَدري؟ ذكري الاستقلال حين يتحوّل الوطن إلى عهد

عبدالعزيز يعقوب – فلادليفيا
ayagoub@gmail.com
٣١ ديسمبر ٢٠٢٥
بلادي يا سنا الفجر وينبوع الشذى العطر
وملهمة الأناشيد وآياتٌ من الشعر
سلامي أنتِ الحاني وحلمي بالهوى العذري
رعتني أرضُها طفلًا
فكيف أسومها غدري
أوقفتُ لذاتها عمري
وحقٌّ لخيرها شكري
بهذه الأبيات، التي لا تقبل اختصارًا ولا تحتمل أن تُزاح عن صدر النص، يفتتح الشاعر حسن مصطفى التني قصيدته بوصفها عهدًا أخلاقيًا قبل أن تكون نشيدًا وطنيًا. فهي ليست خطاب حنين، بل إعلان انتماء كامل، يرى في الوطن أصل التربية، وفي الغدر به سقوطًا في المعنى قبل أن يكون خيانة في الفعل.
صاغ التني قصيدته بوعي وطني عميق وروح صوفية شفيفة، فجعل من السودان فجرًا دائمًا لا يُختزل في حدث سياسي عابر، بل يُفهم بوصفه قيمة أخلاقية ممتدة. الوطن هنا ليس أرضًا تُمتلك، بل أمانة تُؤدّى، وليس شعارًا يُرفع، بل عمرًا يُوقَف في سبيله. ومن هذا المنطلق ينهض السؤال المركزي في النص: «فكيف أسومها غدري؟» سؤال ضمير جماعي، لا استنكار عاطفة عابرة..
هذه القصيدة تضعنا أمام سؤال جوهري. ماذا يعني أن نكون مستقلين حقًا؟
هل الاستقلال هو الخروج من سلطة المستعمر فقط، أم هو التحرر من الأنانية، ومن الاستسهال، ومن خيانة القيم التي قام عليها الوطن؟ حين يقول الشاعر “فكيف أسومها غدري”، فإنه لا يخاطب فردًا بعينه، بل يواجه ضمير أمة، محذرًا من أن أخطر ما يهدد الأوطان ليس العدو الخارجي، بل الغدر الداخلي.
وفي سياق ذكرى الاستقلال، تتجلّى قيمة العمل بوصفه الامتداد الحقيقي لذلك اليوم المجيد. فالحرية التي لا تتحول إلى عمل تُهدر، والاستقلال الذي لا يُصان بالإنتاج والإيثار يتحوّل إلى ذكرى باهتة. هذه القصيدة لا تفصل بين الحب والعمل؛ فالحب الصادق للوطن هو أن تُفني جهدك في بنائه، وأن تؤثره على راحتك، وأن ترى في تعبك الشخصي لبنةً في جدار بقائه.
وحين خرجت هذه الكلمات من فضاء الشعر إلى فضاء الغناء، وحملها صوت الفنان المرحوم عبدالعزيز محمد داوود، لم تُنتزع من صاحبها، بل اتّسعت دائرتها. الشاعر أنشأ الرؤية والمعنى، والفنان منحها حياة سمعية جعلتها مقيمة في الوجدان العام. هكذا اكتمل العمل دون أن يطغى الصوت على الكلمة، أو يُمحى الأصل خلف الأداء.
تقيم القصيدة موقفًا أخلاقيًا صارمًا من الغدر بالأوطان. فالغدر ليس اختلافًا سياسيًا، بل نقيض الوفاء، وخروج عن أبسط معاني الشرف. الأرض التي “رعت طفلها” لا يجوز أن تُساوَم حين يكبر أبناؤها، ولا أن تُختزل في صراعات ومكاسب آنية. لذلك يصبح حب الوطن، في هذا النص، فعلًا لا شعارًا، وعملًا لا ادّعاء.
ويتقدّم العمل والإيثار بوصفهما جوهر الوطنية الحقة. فالأوطان لا تُبنى بالهتاف، بل بالصبر، وبالجهد اليومي، وبالقدرة على تقديم العام على الخاص. وإفناء النفس من أجل الوطن لا يعني الفناء الجسدي، بل الخروج من ضيق الذات إلى سعة المعنى، ومن أنانية اللحظة إلى خلود الأثر.
وفي خلفية القصيدة، تحضر الروح الدينية الصوفية بهدوء عميق. الطبيعة تسبّح، والفجر يشهد، وكأن الوطن كلّه في حال ذكر. هنا يصبح العمل عبادة، والوفاء قيمة إيمانية، والخيانة انكسارًا روحيًا قبل أن تكون جريمة وطنية.
في الأول من يناير، نحن جديرون بأن نُبدِّر مثل هذه القصيدة لا على سبيل الإسراف، بل على سبيل الوفاء. جديرون بأن نعيدها إلى الصدور قبل المنابر، وأن نجعلها مرآة نسأل فيها أنفسنا. هل ما زلنا أوفياء لذلك الفجر الأول؟ وهل ما زلنا نؤمن بأن إفناء النفس من أجل الوطن ليس تضحية خاسرة، بل أعلى درجات الحياة؟؟
في ذكرى الاستقلال، تذكّرنا هذه القصيدة أن الوطن لا يُحَب بالكلمات وحدها، ولا يُصان بالأغاني فقط، بل بالوفاء، والعمل، وصدق التضحية. فالأوطان التي لا يُغدر بها هي تلك التي يجد أبناؤها في خدمتها معنى لحياتهم، لا عبئًا عليها.
رحم الله الشاعر حسن مصطفى التني، الذي جعل من الشعر ضميرًا، ومن الوطن عهدًا لا يُنقض، ورحم الله الفنان عبدالعزيز محمد داوود، الذي حمل الكلمة بوقار وأودعها ذاكرة السودانيين نشيدًا للوفاء.


