مهما تكن إشكالات مبادرة السلام التي أطلقها رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس في مجلس الأمن (23 ديسمبر/ كانون الأول الجاري)، وأوجه القصور فيها، فإنها تمثّل خطوةً مهمّةً إلى الأمام في جهود الحكومة السودانية لإنهاء الحرب، التي مزّقت البلاد ودمّرتها في الأعوام الثلاثة الماضية. فقد كان لنا موقف ثابت مفاده بأن الأولوية لوقف الانتهاكات، وإلا لا معنى لوقف الحرب إذا كانت معاناة المدنيين ستستمر، فالجيش السوداني لم يكن يدافع عن نفسه في هذه الحرب، وإنما عن المدنيين. ولو توصّل الجيش إلى توافق على وقف إطلاق النار مع المليشيا من دون ضمانة لوقف الانتهاكات، يكون هذا أشبه بالتواطؤ في الانتهاكات ضدّ المدنيين.
يُذكر أن كل الانتهاكات الكبرى، من الإبادة في الجنينة إلى الإبادة في الفاشر، وقعت من دون معارك بين الجيش والمليشيا، أي في وجود وقف إطلاق نار كامل مع الجيش. ولهذا كنّا نصرّ، في كل المنابر التي نشترك فيها لمناقشة إنهاء الحرب، على أن يكون وقف الانتهاكات مقدّماً على أي هدف. ومن هذا المنطلق، كان إصرارنا في مجموعة الرئيس تابو أمبيكي على ضرورة أن يكون وقف النار “الإنساني” إنسانياً بالفعل، ورحّبنا بالبروتوكول الإنساني الذي أعدّته المجموعة على عجل وسُلِّم لمجموعة “إيغاد” وللوسطاء في منبر جدّة، ما جعله في النهاية العمود الفقري لإعلان جدّة في مايو/ أيار 2023.
ويؤسفنا عدم الالتزام بذلك الإعلان الذي أعطى الأولوية لتأمين المدنيين والمنشآت المدنية، مثل المستشفيات وغيرها، تحديداً لأن المليشيا أصرّت على التمادي في انتهاكاتها ضدّ المدنيين من دون عواقب، كما أنها استمرّت في خرق الهدن كلّها. وكان اعتذارها دائماً أنها غير قادرة على السيطرة على قواتها كلّها. وكما كتبتُ سابقاً، لو كانت المليشيا غير قادرة على ضبط جنودها فلا معنى لأيّ تفاوض معها، وإذا كانت تكذّب وتستغلّ الهدن للمضي في إجرامها، فمن باب أولى لا فائدة من أيّ تفاوض.
لهذا إن مبادرة سلام لا تشترط وقف العدوان على المدنيين هي مجرّد عبث. فعلى سبيل المثال، لا يمكن الاتفاق على وقف إطلاق النار من دون أخذ وضع المدنيين في الفاشر المنكوبة (وُصفت بأنها “أكبر مسلخ بشري في العالم” أو أنها “مسرح جريمة”) في الاعتبار. لم يُسمح لأيّ جهة خارجية موثوقة بالوصول إلى الفاشر، بعد أن نشرت المليشيا نفسها صوراً كشفت مجازر مُروِّعة، بعضها جرى في مستشفيات، مع اختفاء أكثر من 150 ألفاً من سكّان المدينة من دون أن يُعرف مصيرهم (مرّة أخرى أنكرت المليشيا أيَّ مسؤولية، وهو سبب آخر لرفض أيّ تفاوض مع جهة تمارس الكذب أو تفقد السيطرة، وأحياناً الاثنين معاً). فهل خاطبت مبادرة إدريس هذه المعضلة؟
لنبدأ بما بدا جوانبَ سلبيةً في المبادرة. أولاً، لم يظهر أنها دُرست بما يكفي أو خضعت لمشاورات مناسبة، إذ تكشف عن سذاجة سياسية ومظهر دعائي أكثر منه مقترحاتٍ جدّية. ثانياً، يبدو أن المبادرة لم تسبقها مشاوراتٌ مع شركاء الحكم الإقليميين والدوليين، حتى يتم التوافق على مقترحات واقعية تدعمها هذه الدول. ثالثاً، لم يُحضَّر الرأي العام للمبادرة، بل لم تُعلَن حتى للرأي العام السوداني. فحتى بعد مغادرة رئيس الوزراء إلى نيويورك، كان الإعلام السوداني ما يزال يتحدّث عن زيارة إلى الأمم المتحدة للقاءات مع مسؤوليها، ولم يذكر شيئاً عن مبادرة أو حتى مقترحات. وفي وقت لاحق، تحدّث بعض مستشاريه إن إدريس سيتناول في حواراته تيسير وصول المساعدات الإنسانية، وربّما وقف إطلاق نار. ولم تتضح الصورة إلا بعد أن صعد رئيس الوزراء المنبر الأممي ليكشف أن لديه خطّة.
شملت ملامح الخطّة المطروحة وقف إطلاق نار مشروطاً بمراقبة أممية وإقليمية، ثم خروجاً للمليشيا من المدن التي تحتلّها، ونزع سلاحها. وأُضيفت إلى هذا مقترحاتٌ لحوار مدني، تعقبه فترة انتقالية، ثم انتخابات تعيد البلاد إلى الحكم المدني. ويمكن تقسيم هذه المقترحات إلى أكثر من مرحلة، أهمها حالياً وقف إطلاق النار بصورةٍ تؤمّن سلامة المدنيين وتضمن انسياب المعونات الإنسانية. وقد ظلّت هذه القضية تعاني من ثلاث عقبات: أولها الإغلاق المتعمّد لطرق إيصالها للمحتاجين من مليشيا الدعم السريع، الذي بلغ أبشع صوره في مدينة الفاشر وحصارها الذي استمر قرابة عامَيْن، مُعززاً بالقصف (الذي طاول للأسف معسكرات النازحين في المدينة) والتجويع قبل اجتياحها. والثانية تعرّض قوافل المعونات ومراكزها والعاملين فيها للقصف والنهب والتقتيل. الثالثة، وهي الأدهى، تواطؤ الجهات الدولية، بما فيها الجهات الإنسانية، في هذا الحصار، إذ لم تصدر أيُّ رسالة واضحة في إدانة هذه الممارسات المشينة، بل ظلّت المليشيا تُكافأ كلّما سَدَرَت في غيها وراكمت جرائم الإبادة، وتضغط الدول على التفاوض معها بدلاً من الضغط عليها لوقف الانتهاكات الجسيمة، وإبلاغها بأنه لن يكون لها مقعد في أي مفاوضات ما لم توقفها.
من هذا المنطلق، خطّة وقف إطلاق النار غير واقعية، لأنها تطالب المليشيا بالاستسلام، في حين ما تزال تتمتّع ببعض القوة. صحيحٌ أن المليشيا لا بدّ أنْ تُحجَّم وتخرج من الساحة، وهذا يحتاج إلى حضور أممي يمنع وصول التسليح، وفي الوقت نفسه دعم دولي وإقليمي قوي للحكومة يعزّز قدرتها على ردع أيّ هجمات مقبلة ضدّ المدن السودانية، وردع المليشيا وتحجيمها بما يكفي لكفّ شرّها عن المدنيين. كذلك يطالب رئيس الوزراء بإشراف أممي على وقف إطلاق النار، لكنّه يرفض وجود قوات أممية لهذا الغرض. كما لم تُحدِّد المبادرة بوضوح مركزية هدف حماية المدنيين ووقف الانتهاكات، مع أن هذا هو الهدف الحقيقي وراء مطلب لجم المليشيا وتحجيمها.
وعليه، الحلّ الواقعي على المدى القريب تشكّل تحالف دولي وإقليمي قوي يواجه المليشيا ويفرض عليها التراجع من كل شمال دارفور، وكذلك من مدن جنوب دارفور المهمّة، وأيّ منطقة أخرى تحتلها في البلاد، مع وجود رقابة أممية مكثّفة في مناطق وجودها لحماية المدنيين، واستنقاذ كل أسرى المليشيا. هذا كلّه مدعوم بأدوات ردع كافية لدى الحكومة ودعم دولي قوي.
أمّا المراحل التالية، مثل مرحلة الحوار المدني، فهي موازية، لكنّها لا بدّ أنْ تنطلق من منطلقات مشتركة، أبرزها إدانة فظاعات المليشيا وما استمرّت ترتكبه من كبائر، والالتزام بقناعة مشتركة حول حماية المدنيين، ومعاقبة المتورّطين في الفظائع وعمليات الإبادة وجرائم الاغتصاب وغيرها. فلا تحرّك إلى الأمام إلا بتخطّي هذه المرحلة، وإخراج أكابر مجرميها ومن ظاهَرهم. فكل من يؤيّد الإبادة والاغتصاب، وغيرها من الكبائر، غير مؤهّلٍ للقيادة السياسية أو المدنية، أو حتى التكنوقراطية، إلا من تاب وعمل صالحاً.
وعليه، لا يجب أن تشمل أيُّ مفاوضات قوى سياسية تمتنع عن إدانة جرائم المليشيا في حقّ المدنيين، ولا توافق على أولوية حماية المدنيين؛ فهي بهذه المواقف ليست مؤتمنة على البلاد وأهلها، ولا حقّ لها في التحدّث باسم شعبٍ خذلته وخانته. إذن، يجب أن يكون محور أيّ مبادرة حماية المدنيين والمدن والحياة المدنية، والسماح بعودة النازحين إلى ديارهم، وفتح المدارس والمستشفيات والأسواق وتأمينها من كل تهديد جديد. عندها ستعود الحياة المدنية إلى طبيعتها، وتتشكّل كتلةٌ مدنيةٌ مؤهّلةٌ للحوار وقادرة عليه بضمان الحياة الطبيعية والحدّ الأدنى من ضرورات المعيشة. أمّا حالياً، وقرابة نصف سكّان السودان خارج ديارهم، فلا صوت يعلو فوق صوت تحقيق السلام وردع المعتدين.
وما يتبع من ترتيبات مستقبلية حول دستور البلاد ومستقبلها السياسي والانتخابات يعتمد على المراحل السابقة، ومن أهمها اعتقال قادة وضباط وجنود المليشيا المتمرّدة، المتورّطين في الإبادة في الجنينة والفاشر، وجرائم القتل والاغتصاب والنهب والتعذيب وغيرها من الانتهاكات الجسيمة في الخرطوم والجزيرة؛ وهي مهمة مشتركة بين الحكومة والمنظّمات الأممية ومنظّمات حقوق الإنسان الوطنية والإقليمية والدولية.
وفي الوقت الحالي، لا يجب أن تفرض الحكومة حدوداً وسقوفاً على الدور الأممي الذي قبلت به من حيث المبدأ، خاصّةً لأن تحجيم المليشيا ومحاسبة قادتها والمتواطئين معها يحتاج إلى تعاون عابر للقارات (يشمل اعتقال وتسليم المرتزقة والفارّين من قادة المليشيا).
