✍️ عبد اللطيف مجتبى
ممسكاً لها بكلتا يديه السمراوين كأنما تلك الآلة الصغيرة تحاول أن تفلت منه فيما يمعن هو في التجلد والابتسام، يبدو أن أمر هذه الآلة أعقد مما نتصور بالأحرى نحن لم ندرك كنه ذلك الكائن الذي يتحاوم بصوته كفراشة على هوامش الألحان وتبدو كطائر العنقاء ذلك الطائر الخرافي لكنه هذه المرة يطير في سموات الوجدان الرحبة الفسحة. بأجنحة أنامل أسامة بابكر يبدو أحياناً وكأنه ساحر هندي قديم خبير ببواطن الأمور دون أن يفصح عن سر آلته بشيء سوى تلك الابتسامات والتحايا الموزعة على خشبة المسرح يمنة ويسرة يلهب بها حماس أؤلئك الهائمين في فضاء العذوبة والصفاء وجمال تلك الأرواح التي تتفاوح منها الألحان مثل حديقة جمعت لشذاها أزهار خواطر المبدعين من كلم ولحن وأنامل ساحرة.
تلك (الصولو) التي تنبري لها آلة البيكلو لم تكن سوى صيحة في همسة الشوق صدحت بها أنامل أسامة بيكلو وتجلت فيها مكامن السحر، وفي تلك اللحظات لا يستطيع أحد أن يميز ما إذا كانت آلة البيكلو هو نفسه – وهي تشع وهجاً من بين يديه – أم أنه كان هي نفسها فيتشاكل الأمر ويصعب التمييز بينهما حتى صارت له اسماً ونسباً وصهراً فحلت مكان اسم والده. ترى ما سر هذا التماهي العجيب؟ يا بيكلو!
أسامة بابكر (بيكلو) خلد سيرته وكتبها بأنامله المعطاءة النبيلة سطر لنا عبر (شيء في الخاطر) ذلك الألبوم العذب الذي يشكل حزمة من مسارات وجدانية لم نكن ندري حينها أنها كانت وصايا منه على الوطن والمحبة، بالفعل أنها كذلك الآن قد استوعبنا الدرس يا بيكلو عندما تأملنا في ذلك الشيء الذي جال بخاطرك وبثثته لنا خلال معزوفاتك وفهمنا ما قصدت، بعد غيابنا القسري عن ديارنا جميع، وتذوقنا طعم تلك المعزوفة التي حملت عنوان: جولة في الحي القديم. وكيف يمر علينا صباح العيد وتلك الديار والمساجد خالية من أهليها وعمارها وأصوات التكبير والتهليل في صباح العيد.. وكيف لنا أن نهتف بحياة الوطن دون أن نتغنى (عشت يا سوداني يا سوداني في سموك و مجدك) كيف يا بيكلو وأنت سكبت من أناملك عبيرا في هذا اللحن الخالد لنغني معك وأنت في الغياب (الوسيم القلبي رادو) ذلك اللحن لأحمد المصطفى الذي لم يكن مجرد لحن عابر بل ظل وسيظل بخوراً يعبق في صالات وجداننا العامرة بالمحبة والجمال.
حتى تلك المعزوفة التي أسميتها حبي للإمارات لم تكن سوى رمانة ميزان لتقيم الإعوجاج وتؤكد أن علاقات الشعوب هي دائما الأسمى.
الآن أدرك أيها الموسيقار العظيم أن كل لحظة عشتها بيننا لم تكن سوى درس عميق قدمته في تواضع ومحبة.. ستظل في الخاطر شيئا عزيزا محلقا في سماوات الوجدان والقلوب العامرة بالجمال بوعيك الوثاب وخاطرك الندي ستظل نبعا للإلفة والمودة في غيابك الحضور في كل المشاهد.
رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.