فجر الوعد وبشرى الروح…. في ذكري المولد النبوي

بقلم: عبدالعزيز يعقوب

من قلب الصحراء، حيث الرمال شاهدة على وحدة اليتيم وفقر اليد، بزغ نور لم يحمل في كفّه ذهبًا ولا في كتفه سيفًا، بل حمل في قلبه صدقًا لم تعرف الأرض له مثيلًا. هكذا جاء محمد ﷺ، يخرج من بساطة الرعي وصفاء التجارة، ليغدو قائدًا للإنسانية، لا بسطوة سلطان ولا بسطوع مال، بل بقوة كلمةٍ طاهرة وروحٍ مشعة بالرحمة.

ما كان مولده تاريخًا يُؤرَّخ، بل وعدًا تتعانق فيه السماء مع الأرض، وبشرى تتفتح بها الأرواح على نور لا يخبو. لقد جاء ليقول للإنسان، إنك أكبر من صراعاتك، وأكرم من أن تغرق في وهم القوة الزائلة، وأقدر على أن تسمو بروحك نحو الكمال. ومنذ تلك اللحظة الفاصلة، انفتح للعالم أفق جديد، دين يعلّم أن الأخلاق ليست فضيلةً اختيارية، بل هي لبّ الحياة وروح العمران.

لكننا اليوم، في زمنٍ يضجّ بالمظاهر ويخلو من الجوهر، نجد أنفسنا غرباء عن تلك المعاني. فالسياسة صارت سوقًا للوعود الكاذبة، والمال غابةً يلتهم فيها القويّ الضعيف، والإعلام مسرحًا للوهم والافتراء. صارت القلوب خاويةً وإن امتلأت الخزائن، وغدت الأرواح عطشى ولو تدفقت أنهار التقنية والترف. نرتدي أثوابًا زاهية، ونركب سيارات فارهة، ونحدّق في شاشات مضيئة، لكننا نحيا في خواء داخلي، كأننا عدنا إلى جاهلية جديدة بطلاء عصري.

وحين نستعيد السيرة، ندرك أن محمّدًا ﷺ لم يأت ليبني دولةً عابرة، بل ليقيم إنسانًا باقٍ. صدقه جعل خصومه يقرون بانهم “ما جربنا عليك كذبًا قط.” أمانته رفعت التجارة من حرفة إلى رسالة. كلمته جعلت الحقيقة أمانة لا تُبتذل. وشباب أمته لم يكونوا ظلالًا مهمشة، بل صاروا قادة يخطّون أولى صفحات التاريخ الجديد؛ عليٌّ بن أبي طالب يبيت على فراشه في ليلة الغدر والمؤامرة فداءً له، وأسامة بن زيد يقود جيشًا يزلزل مضاجع الأعداء، وزيد بن ثابت يخطّ الوحي. إنها رسالة للناس كافة و أن الشباب طاقة المستقبل وصناع النهضة، إذا صُقلت بالإيمان والمعرفة والعزيمة والإرادة.

المولد النبوي وعد أن الأخلاق لا تموت، وبشرى أن الإنسان يمكن أن يُبعث من رماده إذا التقط قبسًا من ذلك النور. وفي زمنٍ تتناسل فيه الأزمات كأنها قدرٌ أعمى، ويتصاعد فيه الجدال العقيم وعدم التوافق على قضايا الناس ومعاشهم، يورث ذلك الجدال والصراعَ والفتنةَ والحروب. فما أشد حاجتنا إلى تلك البوصلة أن الرحمة أقوى من الحديد، وأن العدل أثبت من الطغيان، وأن الأخلاق أبقى من السيوف والمدافع.

ليس المولد إذن طقسًا للذكرى، بل نداءً للحاضر وصوتًا للمستقبل. قبلةً للقلوب التي أرهقها الضياع، وتذكرةً للنفوس التي خدّرها البريق الكاذب، وهوادي من نور تعيد للأمة رشدها، وتفتح للإنسانية أبواب الرحمة والسلام.

وإذا كان لا بد من عهد نُجدده في ذكرى مولده، فلنجعل الصدق قاعدة الكلمة، والأمانة أساس المسؤولية، والرحمة روح التعامل، وجبر الخواطر مشروعًا للإصلاح الاجتماعي. تلك هي الوصايا الأربع التي تختصر جوهر الرسالة، وتحوّل الذكرى من احتفال عابر إلى بعث متجدد. فإذا فعلنا، فقد أحيينا الوعد من جديد، وجعلنا البشرى حيّةً في قلوبنا وأعمالنا.

يا أبناء السودان، ويا أبناء الأمة الإسلامية، إن دموعنا اليوم ليست زينةً للذكرى، بل صرخةٌ عميقة تقول من أحبّ محمدًا حقًا لا يرفع بندقيةً في وجه أخيه، ولا يحرق أرضه، ولا يتاجر بجوع شعبه. فإذا لم نتعلم من مولده أن الرحمة سلاح الأقوياء، وأن العدل عماد الدولة، وأن جبر الخاطر أصل الدين، فما قيمة الاحتفال وما قيمة الأهازيج؟

فلنجعل من هذه الذكرى دمعةً تطهر القلوب من الغل، ورجفةً توقظ الضمائر النائمة، وبكاءً صادقًا يعلّمنا أن الجدال العقيم وعدم التوافق على معاش الناس لا يورث إلا الصراع والحروب. وإذا أردنا أن نكون من أمة محمد ﷺ، فلنُطفئ النار بالرحمة، ولنَسُدّ الشقوق بالعدل، ولنجعل من ذكرى المولد ميثاقًا نبايع به رسول الله ﷺ من جديد أن لا يُسفك دم ظلمًا بيننا بعد اليوم.

Exit mobile version