سلمى حمد
أول ما تبادر لذهني بعد تجاوز صدمة الرحيل هو السؤال ؟
كيف كان سيرحل فاروق ؟
وكيف كان سيفارق المتشبثين به من كل ناحية ؟المتشبثين بعطائه اللا محدود . ففاروق يعطي من روحه ومن وقته ومن جهده من طاقته وقدراته و ماله يعطي و لا يستبقي شيئاً . عرفنا فاروق وهو اصلا يقدم كل ما لديه بحب ، يحب عمله فلا تجده الا وهو يعمل او يفكر ويخطط لعمل . ولا يعتذر عن تكليف الا اذا تعارض مع تكليف آخر . وبالإضافة لعمله في التلفزيون كان فاروق ركناً في اعلام الشرطة وكان برنامج ساهرون أحد محطات نجاحه الكثيرات . ثم هو دائماً ما تجده يسعى لحل مشكلة هذا او لمساعدة ذاك .. ثم هو لا يقصر ابدا في واجب أو مجاملة فرحاً أو كرهاً . كنا نظن أن ليس في طاقة فاروق أكثر ، حتى جاءت الحرب فظل فاروق كما هو لم يترك شيئا من همومه ومسؤولياته ولكنه حمل معها مسؤولية تلفزيون السودان كله … تلفزيون الحرب ، والدولة تترنح تحت ضربات موجعة وهزائم متتالية ، سقطت الخرطوم ومدني و سنجه و الدندر و نيالا و وو ، والشعب يفزع بآماله إلى تلفزيون السودان يستمد منه امل الصمود . ويشعر بأن الدولة ما زالت تقف ولم تسقط مادام تلفزيون السودان مازال يبث الامل ويشد العضد وينادي بالصمود .. وفاروق كان هو العمود الفقري لكل ذلك ( فمدير البرامج هو المعادل للمدير ألتنفيذي لأي شركة أو مشروع) هو من يقوم العمل على أكتافه فهو من يجيز ويشرف على البرنامج . انطلقوا من بورتسودان بدون معينات بدون مخصصات ، فالدولة حينها كانت ذاهلة عنهم ولم تلتفت لهم إلا بعد أن أثبتوا فعلاً أنهم قوات إعلامية مسلحة ، و أنهم ( في التلفزيون ) هم راية السودان التي لم ولن تسقط باذن الله .
و من المواقف التي لا انساها يوم أن جاء خطاب لجنة ” تمكين الفساد وتفكيك الخدمة المدنية ” ( كما كنت اسميها ) بفصل فاروق الزاهر وثلة من مبدعي التلفزيون .. ولم اندهش حينها لفصل أحد كما اندهشت لفصل فاروق .
فاروق كان صديقاً واخاً للجميع كان قلبه يسع كل الناس بمختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية ، كان يسعي في حوائج الجميع دون تصنيف ، كان يسد خدمة وينفذ برامج لكل زميل يطلب منه ذلك دون تمييز ..وكنت أظن (وحسن الظن أحياناً من سؤ الفطن)أن من رفعوا التقارير لتلك اللجنة سيئة الذكر ستمنعهم أيادي فاروق البيضاء عليهم من تضمين اسمه ضمن الأسماء المرفوعة ولكنهم قومٌ لا وفاء لهم .. تلقي فاروق الكفء المؤهل المخلص الملتزم بكل قواعد المهنية في عمله العاشق لذلك العمل خطاب الفصل بابتسامة عريضة لم يجزع وجزعت انا (قلت ليهو اشمعني فصلوك انت وما فصلوني انا ؟ قال لى عشان قالو دباب فمازحته وقلت : انا ذاتي دبابة! ) وفعلاً كانت حجة قحاتة التلفزيون أن فاروق كان مجاهداً في الجنوب فتصوّر أن يأتي زمانٌ (لا قدر الله ) يُعاقب فيه كل من شارك في معركة الكرامة !؟
ومن المواقف التي لن انساها لفاروق أنه وفي فترة ما من عهد قحت الغابر كان هناك ثلة خيرة من الإعلاميين العزاب الذين يقيمون في ( ميز) والدنيا رمضان فتقاسمنا عمل الافطار . وكانت المعضلة في كيف يتم نقله اليهم ؟ فكان فاروق يأتي بعربته المتهالكة جداً والبنزين في شح وغلاء من شرق النيل حيث يسكن، الى منزلنا في جنوب الخرطوم ، ليحمل إليهم الافطار وهم في شمال الخرطوم . احتساباً لله لا يرجوا جزاءً ولا شكوراً ..
ثم جاء أمر القاضي الشجاع ابو سبيحة وعاد فاروق وصحبه لهيئة الإذاعة والتلفزيون وكانت فرحة زملائهم بعودتهم عظيمة (الا شرذمة قحت) وكان استقبالهم لهم ملئ بالمشاعر والدموع والإحضان والزغاريد . فقرر العائدون المكرّمون أن يعلنوا عن إمتنناهم لطيب الاستقبال بوجبة افطار في كافتيريا الهيئة يدعون له لكل العاملين
.وقد كان .. وكان الحضور اكبر من التوقعات فالجميع يود أن يعبر لهم عن سعادته بعودتهم الظافرة فانتهت كل كميات الطعام المعدة . فماذا فعل فاروق ؟ وهو الكريم بطبعة المبادر دائما . ذهب فاروق إلى بائعات الطعام في المسرح القومي واشترى منهم كل كمية الطعام التي لديهم على حسابه الخاص (المستهلك الرئيسي لطعام البائعات في المسرح القومي هم العاملون في التلفزيون ) ولذلك كان طعامهم متوفراً بكثرة في ذلك اليوم . وكان مبلغاً كبيراً تحمله فاروق وحده إكراماً لزملائه في الهيئة ..
كان فاروق وكم تطعنني هذه (الكان) نسيج وحده فهو ينفق من ماله على الآخرين انفاق من لا يخشى الفقر ، وينفق من جهده و وقته انفاق من لا يخشى الرهق والمرض وهو مريض(القضروف والقولون والقرحة ) وينفق من فكره رؤىً ومبادرات يقوم عليها بنفسه اويقترحها لغيره دون احتكار أو ضنٍ بفكر و معرفه .
وينفق من روحه حباً للناس … كل الناس بلا قيد ولا شرط ، وحباً للسودان بكل تضاريسه وولاياته وحباً لرسالةٍ يؤمن بها ويجتهد في سبيلها بإخلاص وجهد دؤوب . كل ذلك وهو يلاقي الناس وعنت الدنيا ورهقها بوجه طلق لا يغيب عنه الابتسام وخفة ظل وطرفة حاضره تجعل مجلسه لا يمل . فطيلة عشرون عاما عرفته فيها لم اره كدراً الا عند وفاة والدته التي كان شديد البر بها وربما كان ذلك البر هو سر البركة التي لازمته.
. اللهم انت الأ علم منا بعبدك فاروق ، اللهم تقبل شهادته وأعلي مقامه بكل قطرةٍ من دمه ، واجعله مع الانبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . اللهم إن عبدك فاروق قدم اليك صائما في رمضان وفي عشرهِ الآواخر وفي يوم الجمعة ، وقد اصطفيته واخترت له افضل الأوقات وافضل الاماكن وانت تعلم أنه
يشبه الشهادة وأنها تشبهه لطفاً وسمواً وسماحة وأنه سعى إليها في أحراش الجنوب ، فادخرتها له في القصر الجمهوري
لينال الوسام الأعلى واللقب الأعظم (الشهيد) في أشرف بقاعنا واسماها (القصر الجمهوري / قصر الشعب ) .
اللهم اجبر كسرنا نحن إخوته وكسر أسرته وابنه احمد .
اللهم عظم أجرنا فيه ، اللهم ألهمنا صبراً واجرنا في مصابنا ..
ولا حول ولاقوة الا بالله العلى العظيم