“غزوة المرتزقة” (يوليو 1976): حين هزم بونا ملوال أحزاب المركز وحده
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
لعل في انقضاض الهامش الجنوبي على “غزوة المرتزقة” عام 1976 دفاعاً عن مركز الحكم في الخرطوم ما يغري صفوة الهامش في “الدعم السريع” بتعقيد مظلمتهم من هذا المركز ليروا أنفسهم تباعاً شركاء في المركز لا أجراء.
مرت في الثاني من يوليو (تموز) الجاري الذكرى الـ48 لهجوم الجبهة الوطنية، وهي حلف انعقد بين حزب الأمة والوطني الاتحادي والإخوان المسلمين، على الخرطوم عبر الصحراء من مواقعهم في ليبيا لإسقاط نظام الرئيس جعفر نميري.
ولم تستغرق الدولة سوى ثلاثة أيام لتشتت جمعهم وتردهم على أعقابهم. ولضرب العزلة على الهجوم المعارض قام إعلام النظام بما تقوم به القوات المسلحة اليوم حيال هجوم قوات “الدعم السريع” من وصفه بأنه “غزوة مرتزقة أجانب” حتى عرف ذلك بـ”غزوة المرتزقة” في الأدبيات السياسية اتفقت مع التسمية أو لم تتفق. وربما وضعها من لم يتفق بين قوسين طلباً ليبلغ الأفهام بلا التزام بما انطوى عليه الوصف من رأي.
تأتي هذه الذكرى وينهض ليومنا، ومنذ أكثر من عام، هجوم مسلح باسم الهامش في السودان لتغيير “دولة 56” بحجة احتكار الصفوة النيلية الشمالية، بل سائر أهلها في رواية متطرفة، مركزها منذ استقلال السودان في 1956 ومنافعها.
سنتجاوز هنا دلالة “غزوة مرتزقة” 1976 وهو أن هذا المركز الذي يصوره الهامش كجسد إذا شعر بالحمى تداعى له سائره من فرط تكافله ومتانته، لم يكُن كذلك في الحقيقة. فخرجت في “غزوة المرتزقة”، على نظام منه، نظام نميري، أحزاب المركز الغالبة لتنزعه عن سدة الحكم بالسلاح. وتكرر ذلك في ثورة أكتوبر 1964 وثورة 1985 وآخرها ديسمبر 2018. فالخلاف سيد الموقف في المركز لا الصمامة كما تزعم له صفوة في الهامش.
أما الأمر الأكثر أهمية الذي تثيره “غزوة المرتزقة” فهو هل كان المركز مذ كان خالصاً لصفوته وأهل صفوته لم يتداخل معه الهامش بسبب أو مصلحة أو نفرة؟ وبكلمة أخرى: هل كان الهامش براء من سوءة المركز إن كانت هذه السوءة ما يؤلب الأقوام عليه في يوم المسلمين هذا؟.
من المعلوم أنه كان لجنوب السودان دور حاسم في القضاء على “غزوة المرتزقة”. وجاء بونا ملوال، الصحافي ووزير الإعلام في دولة نميري (1972-1978)، بسيرة ذلك الدور بصورة ممتعة في كتابه “السودان وجنوب السودان: من سودان واحد إلى سودانين” (2015). فيكاد ملوال يكون، من روايته، أنه هو وحده الذي قضى على “غزوة المرتزقة” من فوق أدوار لوسائط الإعلام كان رتّبها وحصد ثمرتها حين نشأت الحاجة إليها.
كان ملوال في يوم الغزوة ضمن رجال الدولة الذين كانوا في استقبال نميري في المطار عائداً من زيارة خارجية. وبدأ هجوم “المرتزقة” على المطار غير أن الطائرة هبطت بسلام ونزل نميري ليركب سيارة أعدت له لموقع آمن.
ونادى اللواء محمد الباقر أحمد، نائب رئيس الجمهورية، في المستقبلين أن يتفرقوا. وتبع ملوال سيارة اللواء الباقر الذي كان برفقة اللواء خالد حسن عباس عضو مجلس قيادة انقلاب الـ25 من مايو 1969 المنحل، ليلحقه ويعرف الجاري منه. واتجه الباقر إلى القيادة العامة ولم تكَد سيارته تقترب من بوابتها حتى أوقفتهم جماعة وصفها ملوال بأنها “ناس شكلهم غريب”. فاستدارت السيارة بعجل ليتواجه ملوال مع اللواء الباقر الذي فتح الباب وقال له آمراً، “يا بونا قت ليك روح بيتكم”. وقال ملوال إنه بدا له لحظتها أن الأمر جلل بحق.
مضى ملوال إلى داره التي تقع على مقربة من القيادة العامة. وما إن دخلها حتى جاءه صديق من ضباط الشرطة لينقل إليه خبر انقلاب مجهول المصدر، وليطلب منه أن يغادر وأسرته دارهم المحفوفة بالأخطار بسيارته إلى بيته هو. فرفض بونا أن يغادر وإن قال لصديقه أن يأخذ أسرته وضيفاً نازلاً معه إلى مأمن لأنه كان يريد أن يعرف كوزير في الدولة ما الذي يجري قبل أن يتخذ قراراً بإخفاء نفسه.
وحين خرج ملوال ليذهب إلى مكتبه في وزارة الإعلام عرف بحسه أن ما يجري ليس انقلاباً معتاداً. وكان بالطبع عالماً بنظام الاتصال بين قادة الدولة الذي أسهم فيه كوزير للإعلام. وكان يقوم على طريقين إما التلفون العادي وإما آخر مؤمن للرئيس ووزرائه وقادة القوات النظامية. واختبر ملوال النظامين في بيته، فوجد التلفون العادي معطلاً واتضح لاحقاً أن من قام بذلك كتيبة فنية من الإخوان المسلمين احتلت دار الهاتف التي في وسط الخرطوم قريبة من وزارة الإعلام.
ووجد التلفون السري شغالاً. وحيال ذلك الوضع اتفق لملوال أن ما كان يجري ليس انقلاباً عادياً، فلو كان انقلاباً من الجيش لعطّل قائده التلفون السري ليؤمن انقلابه، ولكن ذلك لم يحدث تلك المرة.
وفي مكتبه وجد ملوال التلفون السري شغالاً كما توقع. وقرر هناك أن يبقى ليدير معركة رد الغزاة بذلك الإمكان الفريد، وليقول إنه حوّل مبنى الوزارة إلى غرفة عمليات لثلاثة أيام. فضرب للرئيس نميري ولا رد. وضرب للواء الباقر. وقال إنه كان منزعجاً للتلفون وسعيداً به في الوقت نفسه. وقال اللواء منزعجاً “يا بونا لم تُطِع أمري لك بالذهاب إلى بيتك”. ولكن، في قول ملوال، كان اللواء سعيداً بزمالتهما في منعطف عصيب في الدولة.
تطرق ملوال إلى النظم التي استنها في الوزارة لتأمين دولته من الانقضاض عليها. فاحتلال “الغزاة” للإذاعة لم ينفعهم لأنهم فشلوا في تشغيلها وكانوا سيفشلون في بث أي شيء للمواطنين حتى لو احتلوا محطة الإرسال في ضاحية سوبا. فكانت الحكومة رتبت في محطة أم جرس نظاماً بتعطيل البث من إذاعتي أم درمان وسوبا. والأكثر مكراً كان ربطهم محطة أم جرس براديو جوبا، عاصمة الإقليم الجنوبي، لتعمل كإذاعة بديلة متى خرجت إذاعة أم درمان من الخدمة بفعل انقلابيين أو غيرهم.
وحلت جوبا محل أم درمان تذيع على الناس بيانات الحكومة عن الأجانب المرتزقة الذين غزوا البلاد وتطمئنهم أن الدولة بقيادة جعفر نميري تردهم ذليلين على أعقابهم. وشجع عمل التلفون السري اللواء الباقر ليطلب من ملوال أن يحاول محادثة الرئيس أنور السادات ليبعث الـ500 جندي سوداني الذين ارتكزوا على الحدود بين مصر وإسرائيل بعد حرب 1973. فبعث ملوال ببعض طاقم مكتبه إلى السفير المصري سعد الفطاطري لينقل إليه رغبة الحكومة السودانية. وكان رد مصر أن الجنود سيصلون إلى الخرطوم في ظرف ثلاث ساعات لو ضمنوا أن مطار الخرطوم تحت سيطرة الحكومة.
ورد ملوال أن المطار بالفعل تحت السيطرة، إلا أنه كان يعرف أن ذلك لم يكُن صحيحاً تماماً. فالمطار لصق القيادة العامة التي كانت لا تزال معركتها دائرة. ولكنه كان ينتظر تلك السيطرة على المطار متى وصلت إلى الخرطوم قوات من شندي ومدني والقضارف. وبحساب زمن وصول تلك القوات إلى الخرطوم اعتقد ملوال بأنه أعطى السادات وقتاً كافياً ليرسل الجنود وقد تحرر المطار.
وعرف بونا لاحقاً من اللواء يوسف أحمد يوسف أنه لم يكُن بالقيادة العامة في ذلك اليوم وهي تحت نيران “الغزاة” سوى 37 عسكرياً. ولإرهاب الغزاة وزعهم على طول خط الدفاع ليتناوبوا إطلاق النار ليحسب الخصم كثافة النيران منبئة عن كثرتهم وما هم كذلك.
جاءت الصحافة العالمية إلى الخرطوم وتساءلت أن ترى هؤلاء المرتزقة الذين اقتحموا صحن الخرطوم. فسأل ملوال اللواء الباقر أن يأتيه بنفر منهم ليراهم الإعلام العالمي ويصدقهم. فقال له الباقر من أين له أن يصدق أن يعثر عسكرهم على مرتزق ويتركه حياً له لكي يعرضه على الصحافيين، وقال قتلناهم جملة. وقرر ملوال بعد إجابة اللواء أن يكف عن حديث الأجانب والارتزاق لتعذر إثبات الواقعة. ومع ذلك اعتقد بوجود جماعة منهم في “الغزوة” بإغراء الجبهة الوطنية. وقال إن بعضهم فروا من المواجهة واحتموا بأسر سلمتهم إلى السلطات.
لم تكُن وقفة ملوال دفاعاً عن نظام من أنظمة دولة 56 عفو الخاطر. فقال إنه صدر من قناعته بأن المرء إذا تولى مسؤولية في الدولة فهي أمانة وطنية حمل عبئها بقوة باذلاً حتى حياته. وكانت الأمانة المعلقة بذمته يومها هي نظام الحكم الذاتي في الجنوب الذي تراضى عنده القوميون الجنوبيون والمركز بـ”اتفاقية أديس أبابا” (1972).
وكفل الاتفاق للجنوب صلاحيات في إدارة شأنه على سنن الديمقراطية بما لم يحظَ به الشمال (أي المركز) نفسه تحت قبضة الرئيس نميري وحزبه الواحد، ناهيك عن إيقاف الاتفاقية للحرب الأهلية الدائرة منذ 1963 ليعيش الجنوب عقداً من السلم لم يتمتع به حتى بعد أن استقل عن السودان.
ولم يكُن لملوال أن يَكِل حماية ذلك المكسب القومي الجنوبي مع المركز حتى للمركز. فقال إنه كان بوسعه أن يترك المركز يضرب المركز ويخرج الجنوب سالماً كما تجري العبارة. فكان بوسعه، في قوله، أن يخفي نفسه في وجه الأحداث كما فعل رئيس النظام نفسه بتأمين نفسه في ضاحية بالخرطوم. واتفق معه منصور في غياب الرئيس نميري عن عجلة القيادة خلال تلك الأيام الحرجة في كتابه “السودان والنفق المظلم”. فرأيناه يرفض عرض صديقه بمغادرة بيته ليؤوي إلى دار غير داره. كما عصى أمر اللواء الباقر مرتين أن يترك الأمر ويلزم داره، بل كان يعرف أنه يجلس فوق إمكان اتصالات جرى تصميمه بدقة لحماية النظام في مثل ذلك المنعطف.
وكان ملوال فوق هذا وذاك يعرف ما تبيّته الجبهة الوطنية لـ”اتفاقية أديس أبابا” متى انتصرت على نظام نميري. فقد انتقدتها بقوة أول التوقيع عليها وكتبت للرئيس القذافي عن تفريط نظام نميري في وحدة السودان والعرب بتوقيعه اتفاقية مشبوهة من ورائها مجلس الكنائس العالمي والإمبراطور هيلاسيلاسي والاستخبارات الأميركية. وملوال مقتنع في يومنا ككثير من الجنوبيين بأن انقضاض نميري على “اتفاقية أديس أبابا” وإلغاءها من طرف واحد في 1983 كان من دسّ الجبهة الوطنية التي كان تصالح معها عام 1977.
لعل في انقضاض الهامش الجنوبي على “غزوة المرتزقة” في 1976 دفاعاً عن مركز الحكم في الخرطوم ما يغري صفوة الهامش في “الدعم السريع” بتعقيد مظلمتهم من هذا المركز ليروا أنفسهم تباعاً شركاء في المركز لا أجراء.