عيد الشكر الأمريكي الامتنان حياة ووعي دائم

عبدالعزيز يعقوب

تستيقظ الصباحات في يوم عيد الشكر وكأنها تهمس للبشر، انظروا إلى ما حولكم، تأملوا الحياة، واعتبروا كل لحظة نعمة. في الأزقة، بين المنازل والمطابخ، تتعانق رائحة الخبز الطازج واليقطين”القرع” والتوابل، وتمتزج بأصوات الضحك وحديث الأطفال، ودقات أواني الطهي، لتشكل سيمفونية حية عن الامتنان والوفاء. ليس مجرد يوم في التقويم، بل دعوة صامتة لتقدير الحياة والاعتراف بنعمها التي قد تكون خفية في التفاصيل الصغيرة، في الصحة، والدفء، والصداقة، والأسرة، وفي القدرة على الصمود والعمل والمشاركة.

أصل هذا الاحتفال يعود إلى عام 1621، في مستعمرة بليموث، حين اجتمع المستعمرون الأوائل والسكان الأصليون ” الهنود الحمر” من قبيلة الويامبانوغ بعد حصاد وفير، بعد شتاء قاسٍ كاد يزهق الأرواح. ثلاثة أيام من الشكر والصلاة والمشاركة كانت بداية تقليد حمل في جوهره رسالة عميقة: أن الامتنان ليس طقسًا عابرًا، بل وعي دائم بالنعمة مهما كانت الظروف، وأن الإنسان يزدهر حين يقدر ما لديه ويشارك الخير مع الآخرين. ومن هذا المنطلق، لم يعد عيد الشكر مجرد ذكرى تاريخية، بل ممارسة للقيم الإنسانية التي لا تنطفئ مع الزمن.

استمر التقليد لأنه يحمل فلسفة حياتية، الامتنان لا يقتصر على لحظة تحقيق الرغبات أو النجاة من المحن، بل يمتد إلى كل يوم، إلى كل نفَس، إلى كل ابتسامة وتقدير. الامتنان قوة تربط بين الإنسان وربه، وبين الإنسان والمجتمع، وبين الفرد والعالم من حوله. وبقرار الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن عام 1863، أصبح الخميس الرابع من نوفمبر مناسبة وطنية للاحتفال بهذه القيمة، ليجمع العائلات والأصدقاء، ويذكر الجميع بأن الشكر ليس رد فعل على الصعوبات فقط، بل نهج حياة متواصل. وكانّه تحسس “لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ”

تكتمل روعة اليوم في المائدة التي تمثل لوحة حية من الرموز والنكهات والروائح. الديك الرومي “Turkey” المحشو يتربع في منتصفها، رمزًا للوفرة والعطاء، صلصة التوت البري تضيف الحلاوة واللون، والبطاطس المهروسة توازن النكهات، وحلوى اليقطين تختتم الطقس الرمزي للحصاد والفرح. الخضروات الموسمية، والخبز، والحساء، وكل شيء على المائدة يشكل رسالة واحدة: أن كل نعمة صغيرة كانت أو كبيرة تستحق الاعتراف والشكر، وأن المشاركة تعظم القيمة وتضاعف الفرح.

لكن عيد الشكر ليس فقط وجبة أو احتفالًا عائليًا، فهو طقس اجتماعي وروحي شامل. في الشوارع والمنازل، تتعانق البهجة والكرم، والمواكب والعروض الموسيقية والرقصات تعكس الفرح الذي يفيض من النفوس، بينما تستمر مباريات كرة القدم” الأمريكية ” التقليدية لتضيف نكهة من المرح والتواصل المجتمعي. وفي قلب الاحتفال، تتجسد قيمة العطاء: المنازل تفتح أبوابها للمحتاجين، والطعام يُقدم لكل من يحتاجه، لتصبح الاحتفالية درسًا حيًا في التراحم والوعي الدائم بالخير.

في هذا اليوم، تتعلم النفوس أن الامتنان لا يقتصر على اللحظات الحرجة أو على الحصاد الكبير، بل هو وعي دائم بالنعمة في كل يوم، حتى في البسيط، حتى في الروتين، حتى في الحياة نفسها. جسد الإنسان يشارك بالفرح، والروح تتحرر من القيود، والفكر يرى في الآخر قلبًا يشبه قلبه، فتذوب الفوارق، وتترسخ القيم الإنسانية في كل تصرف، وكل كلمة، وكل ابتسامة. الفرح في هذا اليوم ليس رفاهية، بل ضرورة روحية واجتماعية، لأنه يذكّر بأن الحياة، بكل ما فيها من تحديات، ما زالت تمنحنا أسبابًا للشكر والامتنان، وأن كل نعمة، مهما صغرت، تحمل في طياتها قوة عاطفية وروحية تجعل الوجود أكثر ثراءً وأجمل.

وعندما يحل الغروب، ويهدأ الضجيج، وتختفي الشمس خلف الأفق، تبقى الروائح والألوان والضحكات في الذاكرة، ويبقى القلب ممتنًا، لأنه فهم أن عيد الشكر ليس مجرد يوم في السنة، بل طقس دائم في الروح، لوحة لا تنطفئ ألوانها، درس خالد في الامتنان للحياة، والوعي الدائم بالنعمة، وممارسة الحب والعطاء بلا انتظار مناسبة.

عيد الشكر بهذا المعنى هو أكثر من تقليد أو احتفال، إنه نهج حياة، ممارسة يومية للوعي بالنعمة، وإحياء دائم للقيم الإنسانية، ومصدر استمرارية للفرح والكرم والتآزر الاجتماعي. إنه تذكير أن الامتنان لا يُقاس بالوقت أو بالمناسبة، بل بالقدرة على أن نحيا بوعي، ونشارك الخير، ونرى في كل لحظة سببًا للشكر.

Exit mobile version