محمد يوسف العركي
في زمنٍ تتطلع فيه الأمة السودانية إلى مستقبلٍ أكثر إشراقًا بعد الانتصارات المتوالية للجيش السوداني ومن معه من أخيار هذه الأمة، وبينما تتعافى الخرطوم من جراح الحرب، جاءت الأخبار قبل يومين تحمل نسمة أمل: عودة الدار السودانية للكتب إلى العمل من مقرها بشارع البلدية العريق.
إنها، سادتي، ليست مجرد دار للكتب، بل ذاكرة وطن، ومحراب معرفة، ومؤسسة تربّت في حضنها أجيالٌ من القرّاء والمثقفين، فمنذ تأسيسها عام 1969 على يد الرائد الراحل عبد الرحيم مكاوي، الذي أورث أبناءه حب الكتاب، فحملوا الراية واستمروا في المسيرة رغم العواصف.
قبل الحرب، كانت الدار تحتضن أكثر من مليوني كتاب، و55 ألف عنوان في شتى ضروب المعرفة. أراد أعداء السودان أن يطمسوا هذا الإرث، أن يطفئوا نور الفكر، وأن يقطعوا شريان الهوية، لكنهم نسوا أن الوعي لا يُقهر، وأن الكتاب لا يُهزم. لقد حاولت مليشيا الدعم السريع، ومن شايعها من أعداء القيم والأخلاق، أن تمحو الذاكرة، لكن عودة الدار جاءت لتقول: إن التاريخ لا يُمحى، وإن الهوية لا تُسرق، وإن القوة الحقيقية تكمن في العلم، الذي هو أمضى سلاح.
إن استئناف نشاط الدار في هذا التوقيت بالذات، حيث تتعافى العاصمة من آثار الدمار، يحمل دلالة عميقة مفادها: أن إعمار العقول يسبق إعمار المباني، وأن السودان لن ينهض إلا بوعي أبنائه. فلطالما كان السودانيون شعبًا محبًا للعلم والقراءة، يقدّس قيمة الكتاب، ويعتبره وسيلة للاستنارة وبناء الذات، حتى اشتهرت العبارة المعروفة. (القاهرة تكتب، ولبنان تطبع، والخرطوم تقرأ).
بالنسبة لي، تمثل عودة الدار السودانية للكتب عودة الحياة لشارع البلدية، الذي كانت الدار أهم أيقوناته. لا زلت أذكر كيف كنت أخصص يومًا في بداية كل شهر لاقتناء بعض من إصداراتها المتنوعة. واليوم، تعود عروس الخرطوم، ويعود معها الأمل.
إن المؤسسات الثقافية، مثل الدار السودانية للكتب، لا تبيع الكتب فحسب، بل تفتح نوافذاً للحوار، وتغذي الفكر، وتعيد بناء النسيج الاجتماعي الذي مزقته الحرب. لا سيما وأننا في زمنٍ تتكالب فيه قوى الداخل والخارج على طمس الهوية، فيصبح الكتاب أداة مقاومة، ومنصة للبناء، وجسرًا نحو المستقبل. فهو يحفظ التاريخ، ويشجع على التفكير النقدي، ويجمع الناس حول أفكار وقيم مشتركة، ويكون أداةً فاعلةً لاستشراف المستقبل، والاستدامة بشتى أنواعها المختلفة.
عودة الدار السودانية للكتب، وهي تنهض من جديد، تشبه طائر الفينيق الذي يخرج من الرماد ليحلق عاليًا، حاملاً معه وعدًا بالاستمرار، وتمنيًا بالسلام، وحرفًا لا يموت.
شكرًا لآل مكاوي، وشكرًا للدار السودانية للكتب، وهي تعود لتشعل الخرطوم حرفًا، ووعدًا، وتمنيًا، وتكتب فصلًا جديدًا في قصة الصمود السوداني.
