رأي

عن خيبة الوطن حين يرسل أبناءه سفراء… فيعودون غرباء.

 عبدالعزيز يعقوب

في بلادي، لا تزال أحلام كثير من الخريجين تتجه نحو السلك الدبلوماسي.ليس فقط لأنه امتداد مموّه للاغتراب، يوفّر العيش المريح دون أن يُقال عن صاحبه “مهاجر”، بل لأنه، في وجدان بعضهم، صورة مشتهاة للحضور الرسمي، ومكانة لا تمنحها الشهادات، ولا تضفيها الوظائف المدنية.

السلك الدبلوماسي هنا، صار أقرب إلى امتياز اجتماعي منه إلى مهمة وطنية. بعضهم يلجه طلبًا لـ”البرستيج”، أو توقًا للأبهة التي تصنعها البدلة وربطة العنق في حفلات الاستقبال. وبعضهم يحمله شغف السياسة، وحلم بأن يكون صوت الوطن في العالم، ممثلًا لوجهه المشرق، ومدافعًا عن قضاياه الكبرى في السياسة، والاقتصاد، والتعليم، وتبادل الخبرات. وصوتًا للمستضعفين والمقهورين في محافل الرحمة، يعكس ثقافتنا وهمومنا نحو الإنسانية.

لكن الحقيقة الموجعة أن وزارة الخارجية لم تنجُ من آفات بقية الدولة. امتدت إليها يد المحسوبية، فخُرّب باب الدخول إليها، وباتت فرص التعيين فيها ـ في كثير من الحالات ـ أقرب إلى منح وترضيات، منها إلى منافسة عادلة تُبنى على الكفاءة، وتنتصر للموهبة، وتختار الصلب من الأعواد.

ومع ضيق هذه الفرص، تضخّمت الرغبة، وتشابك فيها الحُلم بالشبهة. لكن المصيبة الأكبر لا تكمن في طريقة الدخول وحدها، بل فيما يحدث بعد الخروج. إذ ما إن تنتهي فترة عمل بعضهم في إحدى الدول، حتى يتحوّل من رسول يحمل صدى شعبه وقيمه وأمنياته ،حتي يتحول  إلى لاجئ يتسول الحماية السياسية كذبا وافتراءاً للأسف الشديد.  وكأن مهمته الدبلوماسية لم تكن إلا محطة انتظار لهروب كبير… لا رجعة فيه.

أفهذا يُعدّ تصرفًا طبيعيًا في أعراف دول العالم من حولنا اما انه بدعة سودانية تعبر عن شعور بالدونية، وبعض مركبات النقص؟

هل يليق بمن يمثّل وطنه وشعبه في المحافل، أن يدير له ظهره في اللحظة الأولى التي تُنزع منه فيها البدلة الرسمية صدقا او جوراً؟

أم أنّ المسألة، في جوهرها، بيعٌ لذمّة الوطن في سوق العمالة الرمادية؟ سوق لا تهمه هويتك، بل قدرتك على الفكاك من انتمائك وفصلك بين الشعار والممارسة!

الوطن لا يعترض على من يسافر، ولا يغضب ممن يطلب فرصة للنجاح في الخارج،

لكنّه يتوجّع حين يتحوّل تمثيله الرسمي إلى ممرّ للخداع، حين يُوقَّع باسمه في السفارات، ثم يُنكَر اسمه في استمارات الهروب.

ولو كانت الأبواب أوسع، والاختيار أكثر عدالة،

لربما انخفضت الحمى، وتراجعت تلك الرغبات المتوثبة التي لا ترى في الخدمة إلا طريقًا للفرار، من تكليف الوطن إلى مصلحة الذات.

الوطن لا يطلب الكثير. فقط أن يكون من استأمنهم عليه، أهلًا لما حملوه.أن يكون السفر عنه امتدادًا للقلب، لا قطيعة له.

أن تُوقّع باسمه لأنك تحبه، لا لأنك تستغله.

وأن تعود إليه… أو على الأقل، لا تخونه.

وإن كان لا بد من كلمة أخيرة،

فليكن هذا صوتي إليكم… أنا السودان،

لا كعتاب، بل كوصية

“يا أبنائي الذين حملوا اسمي في وثائق السفر،تذكّروا أن من يخدم وطنه لا يُقيم الحسبة على المقابل،ومن يخرج باسمه، يعود إليه، ولو خذله الطريق.إن مضت سنوات الخدمة بلا ترقٍّ ولا مكافأة،فلا تجعلوا ذلك ذريعة لدفني حيًا في ركام النسيان. فالأوطان لا تُجازى، بل تُحمَل،ولا تُستبدل، بل يُصلحها أبناؤها إن نال منها الدهر،ولا تُخلع كما تُخلع البدلة الرسمية في نهاية الوردية.

إن خانتني بعض مؤسساتي، فلا تكونوا أنتم خيانتي الثانية.

وإن دخلتم باسمي قاعات البروتوكول، فاخرجوا منها بكامل ذمّتكم. فالاسم الذي لمع في صدوركم يوم اجتزتم أول امتحان للخارجية…هو اسمي.

والراية التي رفرفت خلفكم في المطار…كانت رايتي. فلا تسلبوني منكم، ولا تُضيفوا إلى وجعي خيبة أخرى.”

توقيع:

وطنٌ ما زال ينتظر أن يعود أبناؤه سفراء له… لا سفراء عليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى