تقارير

عمرو منير دهب يكتب: والله حرام

nasdahab@gmail.com

أجمل ما في صراع الدِّيَـكة بين أهل العلم والمعرفة في أي مجال أنه يتيح للجمهور نشوة تتعدّى بكثير نشوة الفرجة على صراع ديكة بالمعنى الحرفي للديوك. وعندما تـتــّسم مناظرات العلماء أمام الجماهير بالوقار فإنها ترقى من منزلة صراع الديكة إلى مباراة في كرة القدم يهتم أفراد كل فريق فيها وجمهوره بإحراز هدف لصالحه أكثر مما يهتم باللعبة الحلوة كما في الادّعاء الشهير لعقلاء الرياضيين، ومقابلُ اللعبة الحلوة في مناظرات العلماء هو كيفية مقارعة الحجة بالحجة والإفادة من سيل المعرفة المتدفق في الاتجاهين دون الانصراف إلى حصر الاهتمام في ترقــُّـب الحجة التي ستسقط صريعة والتهليل للحجة الداحضة آخر اللقاء.

وعلى غير الحال مع المدرِّس الأفضل، وهو مـَـن يعرف كيف ينقل المعلومة بصورة أفضل للتلاميذ وليس – شرطاً – مـَـن يملك القدر الأكبر من المعلومات، فإن العالم الأفضل ليس بالضرورة مـَـن يعرف كيف ينقل المعلومة للجمهور بالصورة المثلى، ولكنه قطعاً الذي يملك القدر الأكبر من المعلومات ويبرع في عملية إعادة تدويرها في عقله ومن ثمّ إعادة إنتاجها بشكل لا يخلو من الأصالة.

مناظرات العلماء لا تهتـمّ بتعريف العالم على الأساس السابق، ذلك أن نجمها هو العالم المدرّس، أي العالم الذي يعرف كيف يوصل المعلومة الداحضة إلى خصومه وجماهيره على حدّ سواء ليُسقط الأوائل ويحمل الأخيرين على الوقوف تهليلاً وابتهاجاً بالنصر المبين.

تقول العرب “كلُّ مُجْرٍ في الخلاء يُــسرُّ”، والعالِمُ في كتابه يهزم كل العلماء فيكتب مثلاً “تهافت الفلاسفة” ليطيح بالفلاسفة أجمعين، ويردّ الآخر بـ “تهافت التهافت” ليقيل عثرة الفلاسفة ويطيح بالكتاب الذي تربّص بهم، وهكذا فإن الكتاب هو حديث العالم المنفرد يسوقه كيف يشاء ويناظر فيه الآخرين كما يتوهّمهم، ولكن لمنصّة المناظرة حديثها الخاص إذ تضع الآخرين شحماً ولحماً وحجة أمام العالِم وليس وهْماً يصوغه كيف يشاء لينتصر عليه في النهاية.

المبدع عموماً ليس في مناظرة مع خصومه المبدعين فحسب بل كثيراً ما تكون خصومـَه الجماهيرُ، فالطبيب الذي لا يُـقنـِـع تشخيصُه أو دواؤه المريضَ يخسر مناظرة ليس بوسع المريض أن يعبِّر عن حججه فيها بأكثر من اللعن سرّاً أو جهراً.

المبدع المنتصر في مناظرة لا يحتاج في تأكيد انتصاره إلى إقرار المبدع المهزوم صراحة، فتهدُّج صوت الأخير وارتفاع أصوات الجماهير مهلّلة للأول دليلُ انتصار دامغ من شأنه أن يجعل حجج المبدع المهزوم تضطرب بعدها على نحو لافت حتى تسعفه نهاية المناظرة بنهاية الجولة الأخيرة، فليس في عرف المطارحات العلمية والإبداعية الإقصاءُ بالضربة الفنية القاضية.

من قبيل الحجج المضطربة أن يعجز الطبيب عن مقاربة التشخيص العلمي الدقيق لحالة مريض فينصرف من حديث الأطباء إلى حديث الفلاسفة وهو يحث مريضاً في الثلاثينيّات من عمره على التكـيُّـف مع وضع “طبيعي” هو بمثابة بداية الانهيار في منحنى حياة الإنسان الذي يتــّخذ أشكالاً عديدة تحقيقاً لسنة الفناء في الوجود.

ومن قبيل الحجج المضطربة أن يعجز الكاتب الأدنى موهبة عن الردّ على ندِّه الأعلى موهبة فيحمل حديث الأول من التنابز بالألقاب والاحتماء بالمناصرين من الأصدقاء ما يظنــّـه مدعاة إلى الإطاحة بالأخير دون النظر إلى جحافل المناصرين لهذا الأخير في المقابل إذا لم يكن ثمّ مفرّ من حساب النصر في المطارحات الكتابية على طريقة صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية وما دونها.

مِن تــُـحـَـف الحجج المضطربة ما عمد إليه شاب ورِع جادل بعض أصدقائه الأقل ورعاً في مسألة فقهية ذهب إلى أنها ترقى إلى مرتبة الحـُرمة وذهب أصدقاؤه إلى أنها أهون من ذلك بكثير، وكان أن ألحّ عليه الأصدقاء في طلب البيّـنة على الحرمة من الكتاب والسنة، أو حتى من الأثر، ولكن الصديق الورِع لم يتذكر أين وقع على حجته من قبل فلم يجد دليلاً على صحة ما ذهب إليه أفضل من ثقة أصحابه في صدقه وأمانته فأخذ يصيح: “والله حرام… والله حرام”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى